كتبه/ مصطفى دياب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتى الإسلام، اعلم أن عزتك وكرامتك في أن تتشبه بأصحاب رسولك -صلى الله عليه وسلم- وبكل أهل الخير من بعدهم، وهم كثيرون جدًّا، ولكن أريد أن أتجول معك في سيرة عدد من هؤلاء الذين كانوا أعلامًا وهم في زمن الصبا مثلك؛ ليكون ذلك تنشيطًا لك على أن تبدأ من الآن، ولا تظن أنك مازلت صغيرًا، ولذلك؛ سوف نبدأ معًا في قصص بعض الأعلام الذين ظهرت فضائلهم في سن العاشرة أو الثانية عشر أو قريبًا من هذا.
ولكن اسمح لي أن تكون البداية مع رجل بدأ ظهوره نجمًا ساطعًا في سماء الإسلام وهو ابن ثمان سنوات -نعم لا تعجب- ثمان سنوات، إنك تعرفه جيدًا، ابحث في ذاكرتك عنه، إنه علي -رضي الله عنه-، أول من أسلم من الصبيان.
لقد تركه أبوه -أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمان سنوات؛ ليعيش معه ومع زوجته خديجة -رضي الله عنها-، وليكون مثلاً للصبي الذي يربيه أفضل رجل في التاريخ -محمد صلى الله عليه وسلم-، وأفضل امرأة في تاريخ المسلمين خديجة -رضي الله عنها-.
لقد أصبحت أخلاقه كأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعاداته كعاداته، لم ينغمس في اللهو كما انغمس غيره من الغلمان؛ لأن مربيه -صلى الله عليه وسلم- لم ينغمس في اللهو كما انغمس غيره من الرجال، وعلى قدر بغض النبي -صلى الله عليه وسلم- للأصنام كان بغضه لها.
ولما نزل الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- شرُفَ علي -رضي الله عنه- بأن كان هو وخديجة -رضي الله عنها- أول من آمن به -صلى الله عليه وسلم-.
وكان من أعظم ما أنعم ربه عليه به أنه كان يصلي خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وخديجة -رضي الله عنها-، يخرج ثلاثتهم إلى خارج مساكن "مكة" في الخفاء؛ ليصلوا لله رب العالمين، وكان لهذه الصلاة أثرًا عظيمًا في نفسه، فكانت له نفس لا تخاف الموت ولا تخشى إلا الله، وهذا ما أهله لكي ينام تلك الليلة الصعبة.
أخي الحبيب: هل تتمنى أن تكون صاحب تلك الليلة؟
لقد نام هذا الغلام اليافع على فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة وفدى النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، فنجاه الله من كيد الأعداء؛ ليلحق بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، ولتتوالى عليه الأوسمة، فهو القائل:
"والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من موتة على فراش".
وهذا ما دفع بعض العرب أن يقولوا: "ما لقينا كتيبة فيها علي ابن أبي طالب إلا أوصى بعضنا على بعض، كأنهم أيقنوا الموت والهلاك، فيكتبون وصيتهم".
وفي الطريق إلى "خيبر" خرج عامر بن عبد الله ابن عم سلمة بن الأكوع وكان يرتجز ويقول:
تَـاللَّهِ لَــوْلا اللَّهُ مَــا اهْتَـدَيْـنَـا وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا فَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
وَأَنْـزِلَـنْ سَـكِيـنَةً عَـلَيْـنَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ هَذَا؟) قَالَ: أَنَا عَامِرٌ، قَالَ: (غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ) قَالَ: وَمَا اسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لإِنْسَانٍ يَخُصُّهُ إِلاَّ اسْتُشْهِدَ، قَالَ: فَنَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْلا مَا مَتَّعْتَنَا بِعَامِرٍ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا "خَيْبَرَ" قَالَ: خَرَجَ مَلِكُهُمْ مَرْحَبٌ يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ وَيَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
قَالَ: وَبَرَزَ لَهُ عَمِّي عَامِرٌ فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرٌ شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُغَامِرٌ
قَالَ: فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَوَقَعَ سَيْفُ "مَرْحَبٍ" فِي تُرْسِ عَامِرٍ، وَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ، قَالَ سَلَمَةُ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُونَ: "بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ قَتَلَ نَفْسَهُ" قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا أَبْكِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ قَالَ ذَلِكَ؟!) قَالَ: قُلْتُ: نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ، قَالَ: (كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ) ثُمَّ أَرْسَلَنِي إِلَى عَلِيٍّ وَهُوَ أَرْمَدُ فَقَالَ: (لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ وَهُوَ أَرْمَدُ حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَسَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ، وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ وَخَرَجَ "مَرْحَبٌ" فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فَقَالَ عَلِيٌّ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
قَالَ: فَضَرَبَ رَأْسَ "مَرْحَبٍ" فَقَتَلَهُ ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ. (رواه مسلم).
- علي بن أبي طالب هو من زوجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بفاطمة -رضي الله عنها- بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن عشرين سنه، فجمع -رضي الله عنه- بين كونه ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وربيبه، وزوج ابنته -صلى الله عليه وسلم-، أما علمه وجهاده وفضله وشرفه وبذله -رضي الله عنه- فتضيق به السطور، وإلى لقاء آخر مع سطور من سيرة "علي بن أبي طالب" -رضي الله عنه-.