الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 30 يوليه 2025 - 5 صفر 1447هـ

الوصايا النبوية (29) (الوصية بصحبة الأخيار) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) (رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه الألباني).

مجمل الوصية:

في هذه الوصية إرْشَادٌ نَبَوِيٌّ لِمَنْ أَرَادَ سَلاَمَةَ نَفْسِه وَبَيْتِه وَعَلاَقَاتِه مَعَ النَّاسِ. وفيها يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا)، أي: لا تَتَّخِذْ صَاحِبًا ولا صَدِيقًا إِلَّا مِنَ المؤمنين؛ لأنَّ المؤمن يَدُلُّ صَدِيقَه عَلَى الإيمان وَالهُدَى وَالخَيْرِ، وَيَكُونُ عُنْوَانًا لِصَاحِبِه، وَأَمَّا غَيْرَ المؤمن فإنَّه يَضُرُّ صَاحِبَه، (وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) أي: المُتَوَرِّعُ، والمراد: لا تَدْعُ أَحَدًا إِلَى طَعَامِكَ وَبَيْتِكَ إِلَّا الأتقياء؛ فإنَّ التقي يَعْرِفُ حُرْمَةَ البُيُوتِ وَيَحْفَظُ مَعْرُوفَكَ، بخلاف غَيْرِ الأتقياء؛ فَهُمْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ.

ففي الوصية: النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الأَصْحَابِ مِنَ الفَسَقَةِ، وَالأَمْرُ بِاتِّخَاذِهِمْ مِنَ الأَتْقِيَاءِ المؤمنين، وكذلك النَّهْيُ عَنْ دَعْوَةِ الفَسَقَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالأَمْرُ بِدَعْوَةِ الصَّالِحِينَ إِلَيْهِ. وسنقف مع كل واحدة منهما وقفة.

أولًا: النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الأَصْحَابِ مِنَ الفَسَقَةِ، وَالأَمْرُ بِاتِّخَاذِهِمْ مِنَ الأَتْقِيَاءِ المؤمنين:

- (لاَ تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا): يَدُلُّ هذا الجزء من الوصية على أهمية انْتِقَاءِ الأصحاب من بين المؤمنين الصادقين، فالصاحب الصالح يُعِينُ عَلَى الخَيْرِ وَيَدْعُو إِلَى الإيمان والتقوى، وكما يقول الناس: "الصَّاحِبُ سَاحِبٌ".

- الأصحاب الصالحون قُوَّةٌ وَعَوْنٌ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَمُوَاجَهَةِ المِحَنِ وَالأَزَمَاتِ: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي . كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا . وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا . إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا) (طه: 29-35).

- الأصحاب الصالحون إذا نَسِيتَ ذَكَّرُوكَ، وإذا ذَكَرْتَ أَعَانُوكَ: قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إخواننا أحب إلينا مِنْ أهلينا وأولادنا؛ لأنَّ أهلينا يُذَكِّرُونَنَا الدنيا، وإخواننا يُذَكِّرُونَنَا الآخرة".

- الأصحاب الصالحون يُرْشِدُونَكَ إِلَى خَيْرِكَ، وَيُثَبِّتُونَكَ فِي مِحْنَتِكَ: كان ابن القيم -رحمه الله- يقول وهو يتكلم عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَكُنَّا إِذَا اشْتَدَّ بِنَا الخَوْفُ، وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ، وَضَاقَتْ بِنَا الأَرْضُ؛ أَتَيْنَاهُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَ كَلاَمَهُ؛ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً" (الوابل الصيب من الكلم الطيب).

- الأصحاب الصالحون أنت بينهم سَالِمٌ رَابِحٌ، ولو كنت مِنَ المُقَصِّرِينَ: ففي حديث الملائكة السيارة أنهم يقولون: (رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ ‌الْقَوْمُ ‌لَا ‌يَشْقَى ‌بِهِمْ ‌جَلِيسُهُمْ) (متفق عليه).

قال أبو الفضل الجوهري -رحمه الله-: "إنَّ مَنْ أَحَبَّ أهل الخير نَالَ مِنْ بَرَكَتِهِمْ؛ كلب أحب أهل فضل وصَحِبَهُمْ فذكره الله في مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ".

- مُرَافَقَةُ الأصحاب الصالحين تَجْعَلُكَ مَعَهُمْ فِي الجنة ولو كنت دُونَهُمْ فِي الأعمال: عن أنس -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ: لَا شَيْءَ، إِلَّا ‌أَنِّي ‌أُحِبُّ ‌اللهَ ‌وَرَسُولَهُ. قَالَ: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) (متفق عليه).

- الأصحاب الصالحون فِي الآخرة لاَ يَنْسَوْنَ صُحْبَتَكَ، فهم يَشْفَعُونَ لَكَ لو كنت مِنَ المُقَصِّرِينَ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَا ‌مُجَادَلَةُ ‌أَحَدِكُمْ فِي الْحَقِّ يَكُونُ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَشَدَّ مُجَادَلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ، قَالَ: يَقُولُونَ: رَبَّنَا، إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا، فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ! قَالَ: فَيَقُولُ: اذْهَبُوا، فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ...) (رواه النسائي، وصححه الألباني).

- وَأَمَّا الأَصْحَابُ الفاسدون، فأنت بينهم خَاسِرٌ ولو كنت مِنَ الصَّالِحِينَ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (متفق عليه). وفي حديث قاتل المائة نفس: (انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) (رواه مسلم).

- إِنَّ كَثْرَةَ المُخَالَطَةِ تَجْلِبُ المُشَابَهَةَ؛ فاحذر التأويلات الفاسدة في مُرَافَقَةِ الفاسدين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني). قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "رَفِيقُ التقوى صَادِقٌ، وَرَفِيقُ المعاصي غَادِرٌ"(1).

- الأصدقاء على المعاصي في الدنيا يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يوم القيامة: قال -تعالى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67). وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) (الفرقان: 27-29).

ثانيًا: النَّهْيُ عَنْ دَعْوَةِ الفَسَقَةِ إِلَى الطَّعَامِ والبيوت:

- (وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ): يُوَجِّهُ هذا الجزء من الوصية إلى ضرورة عَدَمِ إطعام غير الأتقياء وإكرامهم بالمُؤَاكَلَةِ.

- الإطعام يُحْدِثُ المُلاَطَفَةَ وَالمَوَدَّةَ وَالأُلْفَةَ، فَيَجِبُ أَنْ يَنْتَوِي المُطْعِمُ بذلك المؤمنين والصالحين: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا) (الإنسان: 8-9). وَالنَّهْيُ يَزْدَادُ تَأْكِيدًا إذا كان الإطعام فِي البيوت، فمن نِعَمِ اللهِ -تعالى- الجليلة على عباده أَنْ هَيَّأَ لهم بيوتًا يَأْوُونَ إليها وَيَسْكُنُونَ فِيهَا؛ فلا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَهَا إِلَّا الأتقياء؛ قال -تعالى-: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) (النحل: 80)(2).

- فالتقي تَسْعَدُ بِزِيَارَتِهِ وَإِطْعَامِهِ؛ فهو يَتَقَوَّى بِطَعَامِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَإِذَا دَخَلَ بَيْتَكَ لَمْ يَتَطَلَّعْ إِلَى عَوْرَاتِكَ، وَإِذَا رَأَى شَيْئًا سَتَرَهُ عَلَيْكَ، وَإِذَا جَالَسْتَهُ ذَكَرَ اللهَ، وَإِذَا أَكَلَ دَعَا وَشَكَرَ، وَإِذَا فَارَقَ أَثْنَى بِجَمِيلِكَ وَذَكَرَ، فأنت رَابِحٌ بعد زيارته، أَمَّا غَيْرُ الأتقياء مِنَ الفاسقين فَهُمْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَدُخُولُهُمْ يَجْلِبُ الشُّبُهَاتِ وَالمَحْظُورَاتِ، وَمُجَالَسَتُهُمْ تُؤْذِي النَّفْسَ بِمَا لَهُمْ مِنَ العَادَاتِ، وَإِكْرَامُهُمْ يَحْمِلُكَ التَّبِعَاتِ؛ قال -تعالى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67)(3).

خاتمة:

وصية كريمة من الكريم -صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ أَرَادَ سَلاَمَةَ نَفْسِه وَبَيْتِه وَعَلاَقَاتِه مَعَ النَّاسِ: (لاَ تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ).

فاللهم إنا نسألك فِي الدنيا مُرَافَقَةَ الأتقياء، وَفِي الآخرة مُرَافَقَةَ الأنبياء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كثير مِنْ رُفَقَاءِ السَّوْءِ عِنْدَ الاخْتِلاَفِ يَتَحَوَّلُ إِلَى عَدُوٍّ لَدُودٍ، وَيَحْمِلُ رَايَةَ الحرب عَلَى مَنْ كَانَ صَاحِبًا لَهُ.

(2) فالبيت في الإسلام يَحْظَى بِمَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ، فهو ليس مجرد مكان للإقامة، بل هو أساس بناء المجتمع والأسرة الصالحة؛ فهو اللبنة الأساسية في بناء مجتمع ملتزم بتعاليم الإسلام. وهو المأوى للإنسان وأسرته، حيث يجد فيه الراحة والأمان والطمأنينة. وهو المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الأبناء القِيَم والأخلاق الإسلامية، وهو الذي تَخْرُجُ مِنْهُ الأسرة الصالحة التي هي أساس المجتمع القوي والمتماسك. وهو مكان لإقامة الصلوات والقيام والأذكار التي تَرْفَعُ مِنْ شَأْنِ الإنسان، وهو موطن المودة والرحمة بين أفراد الأسرة.

(3) قد يُسْتَثْنَى حال الضيوف الذين يُدْعَوْنَ إلى الطعام، إذا قَصَدَ المسلم بمخالطة أهل المعاصي ودعوتهم إلى طعامه أن يَتَأَلَّفَ قلوبهم ويَسْتَمِيلَهُمْ إليه؛ لأجل دعوتهم ونصحهم، فلا حرج في ذلك. وفي ذلك فقه للعلماء يتعلق بزمن التأليف وصورته ومدى أثره.