كتبه/ إسلام صبري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
متى يسع العالم السكوت؟
أ- عند الإكراه المعتبر شرعًا: وإن تكلم وأظهر الحق فهو أفضل، لكن السكوت يسعه، فإن لم يكن ثَمَّ إكراه معتبر فلا يسعه السكوت، بل عليه أن يُبَيِّن الحق ويُعَلِّم الناس ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لعل الله -تعالى- يحفظ به فئامًا من الناس وبلادًا من بلاد المسلمين.
وهذا واضح في قصة كلٍّ من بلال وعمار -رضي الله عنهما-؛ فصبر بلال -رضي الله عنه- على الإكراه وهذا أفضل، وترخص عمار -رضي الله عنه- وسكت عن الحق بل تكلم بباطل لأجل الإكراه المعتبر، وفي العلماء زمن فتنة الإمام أحمد -رحمه الله-، فصبر هو، ووسع غيره السكوت لأجل الإكراه.
ب- خوف مفسدة أكبر إذا تكلم: فإذا زالت لم يسعه السكوت، ولا أدل على ذلك من حديث معاذ -رضي الله عنه- في حق الله -عز وجل- على العباد وحق العباد على الله: "فَلَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا"، فخاف من مفسدة الاتكال إذا حدث معاذ بهذا، ثم أخبر بها معاذ -رضي الله عنه- عند موته تأثمًا. (رواه البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-).
ج. عند اشتباه الأدلة أو مناطها على العالم: فلا يدري الحكم فيجب عليه السكوت والإمساك، ذكر ابن الجوزي -رحمه الله- في كتابه صيد الخاطر عن الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- أن رجلًا سأله عن مسألة فقال: "لا أدري"، فقال: سافرت البلدان إليك، فقال: "ارجع إلى بلدك وقل: سألت مالكًا، فقال: لا أدري".
وفي عصرنا: كمسألة نقل الأعضاء، يتوقف فيها الشيخ ياسر برهامي -حفظه الله- فلا يجيب عنها ويقول: "لا أحسنها"، ويتحدث فيها غيره، وكتوقف من توقف من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- في بعض المسائل.
هذه هي الصور الثلاث التي يسع فيها العالم السكوت، وغيرها لا يسعه؛ فلا يطالبه عالم مجتهد -فضلًا عن عامة الناس- بالسكوت في موضع يرى فيه المتحدث -على الأقل من وجهة نظره- أنه خارج عن الثلاث صور.
والعجب أن ترى من يأمر غيره وجوبًا -فضلًا عن تخوينه وتفسيقه- عند تحقق الإكراه مثلًا أن يعرض نفسه للقتل بلا أي مصلحة؛ فيكون حينئذٍ آمرًا له بالثبات في غير موضع الثبات، ويأمر غيره -ولو كان من العلماء- بالسكوت عن الحق في غير موضع السكوت، فيجمع بين المتناقضات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من لا يحسن مسألة لاشتباه الأدلة عليه أو لاشتباه مناطها (الواقع العملي للمسألة): فالتوقف هو الواجب عليه وقد أحسن في ذلك، ولا يتكلف، ولا يكلف غيره بما لا يلزمهم شرعًا فإنه مسؤول عن ذلك يوم القيامة.
وأما السكوت بلا مسوغ: فمن كتمان العلم وهو منهي عنه، متوعد عليه؛ قال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: 187).
قال السعدي -رحمه الله-: "العلماء إذا لبسوا الحق بالباطل فلم يميزوا بينهما، بل أبقوا الأمر مبهمًا وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره، ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب، ولم يهتد العوام الذين يريدون الحق لمعرفته حتى يؤثروه، والمقصود من أهل العلم أن يظهروا للناس الحق ويعلنوا به ويميزوا الحق من الباطل، ويظهروا الخبيث من الطيب، والحلال والحرام، والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة ليهتدي المهتدون ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين".
والله الموفق.