الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 28 يوليه 2025 - 3 صفر 1447هـ

تارك العمل الظاهر بغير جحود ولا إباء (3)

كتبه/ طلعت مرزوق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد اتفق المسلمون على أنه مَن لم يأتِ بالشهادتين فهو كافر. وأما الأعمال الأربعة (الصلاة - الزكاة - الصوم - الحج)، فاختلفوا في تكفير تاركها. ونحن إذا قلنا: أهل السُّنَّة متفقون على أنه لا يُكفَّر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي: كالزنا والشرب، وأما هذه المباني، ففي تكفير تاركها نزاعٌ مشهور. وعن أحمد في ذلك نزاع، وإحدى الروايات عنه: أنه يكفر مَن ترك واحدةً منها، وهو اختيار أبي بكر (الخلال)، وطائفةٌ من أصحاب مالك كابن حبيب.

وعنه روايةٌ ثانية: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط. وروايةٌ ثالثة: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة إذا قاتل الإمام عليها. ورابعة: لا يكفر إلا بترك الصلاة. وخامسة: لا يكفر بترك شيءٍ منهن.

وهذه أقوالٌ معروفةٌ للسلف" (مجموع الفتاوى).

- قال الإمام علي بن أبي العزّ الدمشقيّ الحنفي: "وقد أجمعوا على أنه لو صدَّق بقلبه، وأقرَّ بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه، أنه عاصٍ لله ورسوله، مستحقٌّ الوعيد" (شرح الطحاوية).

- قال الحافظ ابن حجر: "فالسلف قالوا: هو اعتقادٌ بالقلب، ونُطقٌ باللسان، وعملٌ بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمالَ شرطٌ في كماله (قلتُ: ليس هذا إخراجًا للأعمال من الإيمان، ولكنه استعمل كلمة الشرط هنا بمعناها اللغوي والشرعي، لا الاصطلاحي)، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص. والمرجئة قالوا: هو اعتقادٌ ونطقٌ فقط. والكرامية قالوا: هو نُطقٌ فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارقُ بينهم وبين السلف: أنهم جعلوا الأعمالَ شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله" (فتح الباري).

ونحن لا نُنازع في تسميةِ تاركِ الصلاةِ كافرًا، كما ورد في السُّنَّة، وهذا هو الإجماعُ المنقول؛ أما حقيقةُ هذا الكفر: هل هو أكبر أم أصغر؟ فهذا محلُّ الخلاف السائغ، وأهلُ العلم المكفِّرون بترك الصلاة، لا يُكفِّرون بترك جنسها، بل بترك آحادها، وهم على ثلاثة أقوال في ذلك؛ ذكرها ابن القيم: منهم مَن يُكفِّره بترك صلاةٍ واحدة، أو بترك صلاتين مجموعتين كـالظهر والعصر، أو المغرب والعشاء، ومنهم مَن يُكفِّره بترك ثلاث صلوات.

وأما مَن لا يُكفِّره بترك الصلاة، فلا يُكفِّره ولو تركها سنين.

وقد ذهب جمهورُ العلماء إلى تأويل الحديث: (فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، فقالوا: كفرٌ دون كفر. والآثارُ الواردة عن الصحابة تحتملُ هذا التأويل، كما في حديث: (أُرِيتُ النَّارَ، فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ). قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ) (متفق عليه)، وحديث: (فَمَن رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَقَدْ كَفَرَ) (متفق عليه)، وحديث: (اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ(رواه مسلم).

وتاركُ الصلاة تكاسلًا -الذي اختلف العلماءُ في نوع كفره- على خطرٍ عظيم، وأخطرُ ما نَخافه عليه: أن يُنزع منه التوحيدُ عند الموت؛ فإذا كنا نخاف سوءَ الخاتمةِ على مَن يعمل العملَ الصالح، فكيفَ بتارك الصلاة؟!

وقد نقل غيرُ واحدٍ من السَّلف والخَلَف الخلافَ بين العلماءِ في تكفير تاركِ المباني الأربعة تكاسلًا، وخاصةً الصلاة.

ومِمَّن ذكر الخلافَ في تكفير تاركِ الصلاة تكاسلًا: (محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة -

الطحاوي في مشكل الآثار - الخطابي في معالم السنن - ابن حزم في المحلى - ابن عبد البر في التمهيد - ابن رشد في بداية المجتهد - ابن قدامة في المغني - القرطبي في التفسير - النووي في شرح مسلم - ابن تيمية في مجموع الفتاوى - ابن القيم في الصلاة وحكم تاركها - ابن رجب في جامع العلوم والحكم - ابن حجر في فتح الباري - ابن عابدين في رد المحتار - الشوكاني في نيل الأوطار - ابن باز، والعثيمين، والألباني، وغيرهم)، وهذا غيضٌ من فيض.

وقد جاء في حديث الشفاعة: (فَيَقُولُ أَهْلُ الجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ...) (متفق عليه)، وفي حديث الرجل الذي أمر أهلَه أن يُحرِقوه قال: (فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ - أَوْ لَمْ يَبْتَئِزْ - عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا) (متفق عليه)؛ أي: لم يَدَّخِرْ عملًا صالحًا يُدخله اللهُ به الجنة. وفي رواية مسلم: (قَالَ: رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ).

وفي حديث قاتل المائة نفس: (فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ) (متفق عليه).

وفي حديث حذيفة: "فَقَالَ لَهُ صِلَةُ: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ، وَلَا صِيَامٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: يَا صِلَةُ، تُنَجِّيهِمْ مِنَ النَّارِ. ثَلَاثًا" (أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني).

فهؤلاء لم تبلُغْهم هذه الأعمال، ولم يُعذَّبوا على تركها، كمن يخرج من النار بالشفاعة؛ لأنهم في حكم غيرِ المُكلَّفِ بها، ولكنهم نَجَوا بلا عملٍ ظاهرٍ سوى شهادةِ التوحيد، كما نجا من الخلودِ في النار مَن خرج منها بالشفاعة.