كتبه/ أحمد السيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبعد أن ذكرنا في المقال الأول بيان شيخ الإسلام للسياسة العادلة والولاية الصالحة، وأنَّ لهذا الأمر ركنان: الركن الأول أداء الأمانات وما يتعلق بها، وهذا ما استوفي في المقال الأول.
ثم قال -رحمه الله- مبينًا الركن الثاني من أركان السياسة العادلة وهو الحكم بالعدل: "وأما قوله -تعالى-: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء:58)؛ فإن الحُكْم بين الناس يكون في الحدود والحقوق، وهما قسمان:
فالقسم الأول: الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين، أو نوع منهم، وكلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله وحقوق الله، مثل: حدِّ قُطاع الطريق، والسُّرَّاق، والزُّناة ونحوهم، ومثل: الحكم في الأمور السلطانية، والوقوف والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات".
ثم بيَّن: أن هذا القسم يجب على الولاة البحث عنه، وإقامته من غير دعوى أحدٍ به، وكذلك تُقام الشهادة فيه من غير دعوى أحدٍ به.
وبيَّن -رحمه الله-: أن هذا القسم يجب إقامته على الشريف والوضيع، والقوي والضعيف، ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرهما، ولا تحل الشفاعة فيه، ومن عطَّلَه لذلك -وهو قادر على إقامته- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، وهو ممن اشترى بآيات الله ثمنًا قليلاً واستفاض -رحمه الله- جدًا في هذا الباب تأصيلاً واستدلالاً، وفصَّل حدوده وضوابطه.
- وأما الحقوق والحدود التي لآدميًّ معين فمنها: الدماء، وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ) (متفق عليه).
وقد قال العلماء: أكبر الكبائر بعد الكفر: قتل النفس التي حرم الله بغير الحق.
وذكر تقسيم القتلُ وأنه ثلاثة أنواع:
أحدها: العمد المحض، وهو أن يقصد من يعلمه معصومًا بما يقتل غالبًا، سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه، أو بثقله كالسِّنْدان.
والنوع الثاني: الخطأ الذي يشبه العمد.
والنوع الثالث: الخطأ المحض وما يجري مجراه.
ثم بيَّن -رحمه الله-: أن القصاص في الجراح -أيضًا- ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة، فإذا قطعَ يدَه اليمنى من مِفْصل فله أن يقطع يده كذلك.
وأن القصاص في الأعراض مشروع أيضًا وهو أن الرجل إذا لعن رجلاً أو دعا عليه، فله أن يفعل به كذلك، وكذلك إذا شتمه شتيمة لا كذب فيها، والعفو أفضل، قال الله -تعالى-: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الشورى:40-42)، وإذا كانت المظلمة في العرض مما لا قصاص فيه كالفرية وغيره فيه العقوبة بالحد في القذف، وبالتعزير في غيره.
وذكر أن من الحقوق: الأبضاع، المتعلقة بحق المرأة على الرجل وحق الرجل على المرأة، وفصَّل ووضح ذلك -رحمه الله-.
ثم قال -رحمه الله-: "وأما الحكم في الأموال؛ فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، مثل قَسْم المواريث بين الورثة على ما جاء به الكتاب والسنة".
وذكر أن من العدل فيها ما هو ظاهرٌ يعرفه كلُّ أحد بعقله، وهو من المعروف الذي قال الله -تعالى-: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (الأعراف:157)، ومنها: ما هو خفيُّ على العقول حتى جاءت به الشرائع وشريعتنا أهل الإسلام.
وتكلم -رحمه الله تعالى-: على ما يجب على وليِ الأمر وغيره في هذا الأمر، وتكلم عن الغش في المعاملات وأنواعه وأطال النفس في ذلك، وتكلم عن الكيمياء والسحر وما يتعلق بذلك من التخييلات وما يتعلق بها، وتكلم -رحمه الله- عن ولاة الحسبة وما يتعلق بهم.
ثم بيَّن -رحمه الله تعالى-: أنه لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله أمر بها نبيه، قال -سبحانه وتعالى-: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159).
وقد رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لم يكن أحدٌ أكثر مشاورةً لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقد قيل: إن الله -تعالى- أمر بها نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- لتأليفِ قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليَسْتَخْرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه الوحي من أمر الحروب والأمور الحربية وغير ذلك؛ فغيره -صلى الله عليه وسلم- أولى بالمشاورة.
وقد أثنى الله -سبحانه وتعالى- على المؤمنين بذلك، فقال -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38)، وإذا استشارهم، فإن بيَّن له بعضهم ما يجبُ اتباعُه من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو إجماع المسلمين؛ فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحدٍ في خلاف ذلك، وإن كان عظيمًا في الدين أو الدنيا.
ثم بيَّن أن أولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فأكثر ما يُخافُ على الناس ضررهما.
ثم فصَّل -رحمه الله تعالى- ووضَّح: أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا تمام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض تعاونًا وتناصرًا؛ يتعاونون على جلب المنفعة، ويتناصرون لدفع المضرة، إذ الواحد منهم لا يقدر وحده على جلب جميع منافعه، ودفع جميع مضارِه.
ولابد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وروي عند الإمام أحمد في "المسند" عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحِلُّ لثلاثة يكونوا بفلاةٍ من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم".
فأوجب -صلى الله عليه وسلم- تأميرَ الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع التي هي أكثر وأدْوَم؛ ولأن الله -تعالى- أوجب الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، ولا يتمُّ ذلك إلا بقوَّة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجُمَعِ والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ ولهذا رُوي: "إن السلطان ظلُّ الله في الأرض"، ويقال: "ستونَ سنة من إمامٍ جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان".
ثم بيَّن -رحمه الله-: أن التجربة تبيِِّن ذلك، فإن الوقت والمكان الذي يعدم فيه السلطان بموت أو قتل، ولم يقم غيره، أو تجري فيه فتنة بين طائفتين، أو يخرج أهله عن حكم سلطان، كبعض أهل البوادي والقرى يجري فيها من الفساد في الدين والدنيا، ويفقد فيه من مصالح الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا الله.
فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقُرْبة يتقرب بها بالعمل الصالح فيها إلى الله -تعالى-، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما فسدَ فيها حالُ أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها فقط.
ثم قسَّم -رحمه الله- الناس حسب فسادهم وصلاحهم في هذا الأمر، فقال: "فالناس أربعة أقسام: قومٌ يريدون العلو على الناس والفساد في الأرض، وهو معصية الله -تعالى-، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون، كفرعون وحزبه، وهؤلاء شر الخلق، قال الله -تعالى-: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:4).
والقسم الثاني: الذين يريدون الفساد بلا علو، كالسُّّرَّاق والمجرمين من سَفِلَة الناس ونحوهم.
والثالث: يريدون العلوَّ بلا فساد، كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس، وهو أكثر في المتعلقة بنوعٍ من العلم أو نوع من الورع.
وأما القسم الرابع: فهم أهل الجنة، الذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا، مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم، كما قال -تعالى-: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)، وقال -تعالى-: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد:35)، وقال: (وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون:8).
ثم بيَّن -رحمه الله- في خاتمة كتابه: سبيل الفساد وسبيل الصلاح في هذا الأمر موضحًا أنه إذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإقامة دينه، وإنفاق ذلك في سبيله كان ذلك صلاح الدين والدنيا، وإن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوالُ الناس في الأموال.
وأنه لما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف، وصاروا بمعزلٍ عن حقيقة الإيمان في ولايتهم رأي كثيرٌ من الناس أنَّ الإمارات تنافي الإيمان وكمال الدين.
ثم منهم من غلَّب الدينَ وأعرضَ عما لا يتمُّ الدينُ إلا به من ذلك، ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك فأخذه معرِضًا عن الدين؛ لاعتقاده أنه منافٍ لذلك، وصار الدينٌ عنده في محلِّ الرحمة والذل، لا في محلِّ العلوِّ والعزِّ.
وكذلك لما غلبَ على كثير من أهل الديانة من الحكام العجزُ عن تكميل الدين، والجَزَع لِما قد يصيبهم في إقامته من البلاء استضعفَ طريقَهم واستذلَّها من رأى أنه لا تقوم مصلحتُه ومصلحة غيره بها.
وبيَّن أن هذين السبيلين الفاسدين: سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين هما سبيل المغضوب عليهم والضالين، الأول: للضالين النصارى، والثاني: للمغضوب عليهم اليهود.
وأما الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هي سبيل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسبيل خلفائه وأصحابه، ومن سلك سبيلهم، وهم: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100).
فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه، فمن ولي ولايةً قصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه، ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات، واجتنب ما يمكنه من المحرمات لم يؤاخذ بما يعجز عنه.
فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار، ومن كان عاجزًا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه بقلبه، والدعاء للأمة، ومحبة الخير وأهله، وفعل ما يقدر عليه من الواجبات لم يُكَلَّف بما يعجز عنه، فإنَّ قِوام الدين بالكتاب الهادي والحديد الناصر، كما ذكر الله -تعالى-.
فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله، ويطلب ما عنده مستعينًا بالله في ذلك. ثم الدنيا تخدم الدين.
فنسأل الله العظيم أن يوفقنا وسائر إخواننا، وجميع المسلمين، لما يحبه لنا ويرضاه من القول والعمل، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.