كتبه/ محمد سمير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه جملة من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء والدعاة إلى الله -عز وجل-:
أولاً: دوام مراقبة الله -تعالى-:
فعلى العالم أن يراقب الله في السر والعلن، فإنه أمين على ما أودع من العلوم وما منح من الحواس والفهوم.
قال عمر -رضي الله عنه-: "تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار".
ثانيًا: صيانة العلم:
وهو أن يصون العلم كما صانه علماء السلف، ويقوم له بما جعله الله -تعالى- له من العزة والشرف؛ فلا يذله بذهابه ومشيه إلى غير أهله من أبناء الدنيا من غير ضرورة أو حاجة، أو إلى من يتعلمه منه منهم وإن عظم شأنه وكبر قدره.
قال أبو شجاع الجرجاني:
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخـدم مـن لاقـيـت لـكن لأخدما
أأشـقـى به غـرسًا وأجـنـيـه ذلـة إذًا فاتباع الجهل قد كان أحـزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظَّموه في النفوس لعظـما
ثالثـًا: التخلق بالزهد:
أن يتخلق العالم بالزهد في الدنيا، والتقلل منها بقدر الإمكان الذي لا يضر بنفسه أو بعياله فإن ما يحتاج إليه لذلك على الوجه المعتدل من القناعة ليس يُعد من الدنيا، وأقل درجات العالم أن يستقذر التعلق بالدنيا؛ لأنه أعلم الناس بخستها وفتنتها، وسرعة زوالها، وكثرة تعبها ونصبها فهو أحق بعدم الالتفات إليها والاشتغال بهمومها.
قال يحيى بن معاذ -رحمه الله-: "لو كانت الدنيا تبرًا يفنى والآخرة خزفـًا يبقى لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني، والدنيا خزف فانٍ والآخرة تبر باقٍ".
رابعًا: اجتناب مواضع التهم:
فيجتنب العالم مواضع التهم وإن بعدت، ولا يفعل شيئًا يتضمن نقص مروءة أو ما يُستنكر ظاهرًا وإن كان جائزًا باطنـًا؛ فإنه يعرَّض نفسه للتهمة، وعرضه للوقيعة، ويوقع الناس في الظنون المكروهة وتأثيم الوقيعة، فإن اتفق وقوع شيء من ذلك لحاجة أو نحوها أخبر من شاهده بحلمه وبعذره، ومقصوده لئلا يأثم بسببه أو ينفر عنه، فلا ينتفع بعلمه وليستفيد ذلك الجاهل به، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجلين لما رأياه يتحدث مع صفية فوليا، فقال: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي)، ثم قال: (إنّ الشَّيْطانَ يَجْرِي من ابنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فخفت أن يقذف في قلوبكما شيئًا فتهلكا) (متفق عليه).
خامسًا: التنزه عن الأخلاق الرديئة:
وهي أن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الرديئة، ويعمره بالأخلاق المرضية فمن الأخلاق الرديئة: الغل، والحسد، والبغي، والغضب لغير الله -تعالى-، والغش، والكبر، والرياء، والعجب، والسمعة، والبخل، والبطر، والطمع، والفخر، والخيلاء، والتنافس على الدنيا والمباهاة بها، والمداهنة، والتزين للناس، وحب المدح بما لم يفعل، والعمى عن عيوب النفس والاشتغال عنها بعيوب الخلق، والحمية والعصبية لغير الله، والرغبة والرهبة لغير الله، واحتقار الناس ولو كانوا دونه... فالحذر الحذر من هذه الصفات الخبيثة، والأخلاق الرذيلة.
فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله، وقد بلي بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات إلا من عصم الله -تعالى-، ولا سيما الحسد، والعجب، والرياء، واحتقار الناس، وأدوية هذه البلية مستوفى في كتب الرقائق؛ فمن أراد تطهير نفسه منها فعليه بتلك الكتب.
قال الماوردي -رحمه الله-: "فأما ما يجب أن يكون عليه العلماء من الأخلاق التي بهم أليق ولهم ألزم: فالتواضع ومجانبة العجب".
قال بعض السلف: "من تكبر بعلمه وترفع وضعه الله به، ومن تواضع بعلمه رفعه به، وعلة إعجابهم انصراف نظرهم إلى كثرة من دونهم من الجهَّال".
وانصراف نظرهم عمن فوقهم من العلماء، فإنه ليس متناه في العلم إلا وسيجد من هو أعلم منه؛ إذ العلم أكثر من أن يحيط به بشر، قال -تعالى-: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف:76).
ويقول: وأنشدت لابن العميد:
من شاء عيشًا هنيئًا يستفيد به في دينه ثم في دنياه إقـبالاً
فـليـنـظـرن إلى مـن فـوقـه أدبـًا ولينظرن إلى من دونه مالاً
قال الشعبي -رحمه الله-: "العلم ثلاثة أشبار: فمن نال منه شبرًا شمخ بأنفه وظن أنه ناله، ومن نال الشبر الثاني: صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله، وأما الشبر الثالث: فهيهات لا يناله أحد أبدًا".
سادسًا: المحافظة على شعائر الإسلام:
وهي أن يحافظ العالم على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام: كإقامة الصلاة في المساجد للجماعات، وإفشاء السلام للخواص والعوام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى بسبب ذلك، صادعًا بالحق، ذاكرًا لقوله -تعالى-: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (لقمان:17)، ولِما كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيره من الأنبياء عليه من الصبر على الأذى، وما كانوا يتحملونه في الله -تعالى-، حتى كانت لهم العقبى.
وكذلك القيام بإظهار السنن، وإخماد البدع، والقيام لله في أمور الدين وما فيه مصالح المسلمين على الطريق المشروع، ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها؛ فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله -تعالى- على العوام، وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرون، ويقتدي بهديهم من لا يعلمون، وإذا لم ينتفع العالم بعلمه فغيره أبعد عن الانتفاع به.
قال الشافعي -رحمه الله-: "ليس العلم ما حُفظ... العلمُ ما نفع"، ولهذا عظمت زلة العالم؛ لِما يترتب عليها من المفاسد لاقتداء الناس به.
سابعًا: ملازمة تلاوة القرآن والتفكر فيه:
وذلك بأن يحافظ العالِم على المندوبات الشرعية: القولية، والفعلية، فيلازم تلاوة القرآن، وذكر الله -تعالى-: بالقلب، واللسان، وكذلك ما ورد من الدعوات والأذكار في آناء الليل والنهار، ومن نوافل العبادات: من الصلاة، والصيام، وحج البيت الحرام، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن محبته، وإجلاله، وتعظيمه واجب، والأدب عند سماع اسمه وذكر سنته.
وينبغي له إذا تلا القرآن أن يتفكر في معانيه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، والوقوف عند حدوده، وليحذر من نسيانه بعد حفظه؛ فقد ورد في الأخبار النبوية ما يزجر عن ذلك، والأولى أن يكون له منه في كل يوم ورد راتب لا يخل به، فإن غلب عليه فيوم ويوم، فإن عجز ففي ليلتي: الثلاثاء، والجمعة؛ لاعتياد بطالة الأشغال فيهما، وقراءة القرآن في كل سبعة أيام وردٌ حسن ورد في الحديث، ويقال: من قرأ القرآن في كل سبعة أيام لم ينسه.
ثامنًا: العمل بالعلم:
قال الماوردي -رحمه الله-: "وليكن من شيمته العمل بعلمه، وحث الناس على أن تأتمر بما يأمر به، ولا يكن ممن قال الله -تعالى- فيهم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (الجمعة:5).
قال قتادة في قوله -تعالى-: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) (يوسف:68): "يعني أنه عامل بما علم".
وروى عبد الله بن وهب عن سفيان: أن الخضر -على نبينا وعليه السلامـ قال لموسى -عليه السلام-: "يا ابن عمران تعلَّم العلم لتعمل به، ولا تتعلمه لتحدث به فيكون عليك بوره، ولغيرك نوره".
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "إنما زهد الناس في طلب العلم لما يرون من قلة انتفاع من عَلِم بما علم".
وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "أخوف ما أخاف إذا وقفت بين يدي الله أن يقول: قد علمت فماذا عملت إذ علمت".
وقال بعض السلف: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل".
قال: ثم ليتجنب أن يقول ما لا يفعل، وأن يأمر بما لا يأتمر به، وأن يسرَّ غير ما يظهر، ولا يجعل قول الشاعر هذا:
اعمل بقولي وإن قصرتُ في عملي ينفعك قولي ولا يضرك تقصيري
عذرًا له في تقصيره، وإن لم يضر غيره، فإن إعذار النفس يغريها، ويحسن لها مساوئها، فإن من قال ما لا يفعل فقد مَكَر، ومن أمر بما لا يأتمر فقد خدع، ومن أسرَّ غير ما يظهر فقد نافق، وربما بتركه ما أمر به تسبب في إغراء المأمور بترك ما أمر به عنادًا، وارتكاب ما نهي عنه كيادًا.
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "أخبرنا محمد بن إبراهيم... ثم ساق بسنده عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد علمه بالذنب يعمله".
يــا أيـــهــا الرجــل الـمعـلم غــيــره هـلا لنـفسك كان ذا التعـليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا كـيـما يصح به وأنت سقيم
ابــــدأ بـنـفـسـك فـانـهـها عـن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فـهـنـاك يـُقـبـل مـا تـقـول ويـُقـتـدى بالعـلم مـنك ويـنفع التعليم
لا تـنـه عـن خــلــق وتـأتــي مـثـلـه عار عليك إذا فعلت عـظيـم
تاسعًا: التحلي بمكارم الأخلاق:
وعلى العالم أن يلتزم بمعاملة الناس بمكارم الأخلاق: من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وكظم الغيظ، وكف الأذى عن الناس واحتماله منهم، والإيثار، وترك الاستئثار، والإنصاف، وترك الاستنصاف، وشكر التفضل، وإيجاد الراحة، والسعي في قضاء الحاجات، وبذل الجاه في الشفاعات، والتلطف بالفقراء، والتحبب إلى الجيران والأقرباء، والرفق بالطلبة، وإعانتهم وبرهم، وإذا رأى من لا يقيم صلاته، أو طهارته، أو شيئًا من الواجبات عليه أرشده بتلطف ورفق؛ كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الأعرابي الذي بال في المسجد، ومع معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة.