كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمما يلاحظه من يدرس فترة "الحملة الفرنسية" على "مصر" وما بعدها: التغير الواضح في دور المقاومة الشعبية إبان "الحملة الفرنسية" منذ دخولها "مصر" حتى خروجها منها، ودور المقاومة الشعبية خلال الاحتلال الانجليزي لـ"مصر" عام 1882م وما بعدها.
لقد تولى علماء "الأزهر" ورجاله زعامة المقاومة الشعبية خلال "الحملة الفرنسية"، وتجاوب معها الشعب بطوائفه، وكانت المقاومة الشعبية للحملة قوية وشديدة رغم ضخامة الخسائر وكثرة الضحايا خاصة خلال الثورتين الأولى والثانية بـ"القاهرة"، وكانت المقاومة تنبع من رؤية إسلامية، ترفض الخضوع للاحتلال الفرنسي؛ لأن الفرنسيين كفار يريدون الاستيلاء على أرض "مصر" المسلمة، ويقتطعونها من "الدولة العثمانية"، ويخرجونها من سلطان "الدولة العثمانية".
لقد كان الجميع -من حكام ومحكومين- يرفض الفرنسيين، ولكن الحكام عجزوا عن قتال الفرنسيين؛ فناب عنهم الشعب بزعامة علماء "الأزهر" ورجاله، ولا يعارض ذلك أن هناك من تعاونوا مع الفرنسيين من علماء مسلمين ونصارى، ولكنهم قلة خرجت عن عموم الأمة، ورفضهم الشعب وعاملهم بازدراء، ونالوا جزاء ما اقترفوه أثناء وبعد خروج الفرنسيين وجلائهم.
أما عند الاحتلال العسكري الإنجليزي لـ"مصر" عام 1882م، وبعد أن ظهر تيار التغريب "العلمانية" في البلاد على أيدي الحكام، وبعد أن أضعف "محمد علي باشا" وضع علماء "الأزهر" ورجاله، وعرف متعلمو الأمة -وتأثروا- بالغرب من خلال البعثات والإرساليات لـ"أوروبا"، ودخل الأجانب من الأوروبيين البلاد في ظل "الامتيازات الأجنبية"؛ تغيرت الأوضاع، فـ"الخديوي توفيق" يرحب بحماية الإنجليز له، ويثبت حكمه من خلال احتلالهم العسكري للبلاد، والمقاومة للاحتلال هي للجيش المصري، ووزارة البارودي وعرابي تطالب بنظام حكم ينبغي عليه أن لا يعتدي على أمة مستقلة تنادي بحكم نيابي، وهي ترى "بريطانيا" دولة متحضرة متقدمة لها سبق وريادة، و"مصر" في ظل حكم أسرة "محمد علي" تدين بولاء اسمي فقط "للدولة العثمانية".
وهذا كله يشير إلى التغير الكبير الذي وقع في الأمة، فلم تعد نظرتها للأمور من منطلق إسلامي بحت ويقودها علماء الأزهر، ولكنها من رؤية علمانية لا ترفض الغرب وتسعى للتشبه به، ولكن بدون احتلال، ونؤكد على هذه الملاحظة فنقول:
"لما عرض القائد الإنجليزي "نلسن" على "محمد كريم" حاكم "الإسكندرية" حماية الأسطول الإنجليزي له؛ لمواجهة "الحملة الفرنسية"(1) رفض تلك الحماية "قائلا له: هذه بلاد السلطان"(2)، يعني: السلطان العثماني، وتبدو أهمية تلك العبارة في إبراز الارتباط بـ"الدولة العثمانية"، وأصالة ذلك في الوجدان المصري، كرمز لما وراءه من علاقة بالدين، لا تقبل أن يفرط فيها "وتلك واحدة مما يحسب لذلك الفكر، ونحن نزنه بموازين الإسلام، قياسًا بما سيلحق به بعد ذلك من أثر "التغرب" بالفكرة "القومية"، لم تكن هذه الفكرة قد طرأت بعد على هذا المجتمع الذي لم يكن حتى ذلك الحين يرى في غير الدين سببًا للتجمع في إطار الوحدة السياسية أو الدولة"(3).
لما نزل الفرنسيون جهة العجمي في غرب "الإسكندرية" وبلغوا أسوار المدينة صباح 2 يوليو 1798م، لم ينتظر الشيخ "محمد كريم" وصول النجدة من "القاهرة"، وشرع يدافع عن المدينة بما لديه من قوة، واستمات في الدفاع عنها، ولكن الفرنسيون هاجموا المدينة من ثلاث جهات حتى اقتحموها، فاستمر الشيخ محمد كريم في الدفاع عن المدينة بعد دخول الفرنسيين، واعتصم بقلعة "قايتباي"، ثم لما وجد أن قواته أضعف من أن تقف أمام الجيش الفرنسي المسلح بأحدث تسليح كفَّ عن القتال. وقد تكبد الفرنسيون خسائر في استيلائهم على "الإسكندرية" بلغت ثلاثمائة فرنسي بين قتيل وجريح(4).
وكان من القتلى الجنرال "ماس" MAS، ومن الجرحى الجنرال "كليبر"، أصابه عيار ناري في جبهته(5)، ولما تبين للفرنسيين استمرار عداء الشيخ "محمد كريم" لهم بعد احتلال "الإسكندرية" اعتقلوه وحبسوه، ثم أعدموه.
ولما وصل الفرنسيون إلى القاهرة تولى الشيخ "عمر مكرم" تحميس الشعب للمقاومة، ولكن "مراد بك" والآلاف من المتطوعين من أهل "القاهرة" وسكان الأقاليم انهزموا أمام المدفعية الفرنسية، ودخل الفرنسيون "القاهرة"، فغادرها عمر مكرم، ورفض العودة للقاهرة في ظل الاحتلال منتظرًا قدوم القوات العثمانية لمحاربة الفرنسيين، وقد وجه إليه "نابليون" الدعوة للعودة؛ فأبى، وقد أنشأ "نابليون" ديوانـًا من عدد من المشايخ المصريين؛ لحكم "القاهرة" في ظل الاحتلال الفرنسي، وعين الشيخ "عمر مكرم" فيه بوصفه نقيب الأشراف، لكنه رفض ذلك، وانتقل إلى "الشام" فما كان من "نابليون" إلا أن عزله من نقابة الأشراف وصادر أمواله.
ولما توجه "نابليون" إلى "الشام" قبض على الشيخ "عمر مكرم" وعدد من المصريين فأعادهم إلى "القاهرة"، فاعتكف في منزله ينتظر الفرصة؛ لمواصلة الكفاح.
فلما تولى "كليبر" الحملة بعد "نابليون" الذي عاد إلى "فرنسا"؛ انتهز عمر مكرم خروج "كليبر" من "القاهرة"؛ لمواجهة العثمانيين في موقعة "عين شمس" فأشعل "ثورة القاهرة الثانية" في مارس 1800م، والتي استمرت شهرًا كاملاً، ولكن "كليبر" أنهاها بقوة بطشه، وخرج "عمر مكرم" للمرة الثانية من "القاهرة" إلى "الشام" ولم يعد إليها إلا مع الجيش العثماني بعد خروج الفرنسيين؛ حيث أعاده الوالي العثماني إلى منصب نقيب الأشراف من جديد.
ومن زعماء "ثورة القاهرة الثانية": الشيخ "محمد السادات"، وكان من المشايخ الذين اختارهم "نابليون" في الديوان الذي يحكم "القاهرة" من المصريين، فلما قامت "ثورة القاهرة الثانية"؛ كان في مقدمة زعماء الثورة إلى جانب "عمر مكرم". فلما قضى "كليبر" على الثورة بقي الشيخ محمد السادات إلى جانب الجماهير في "القاهرة" ولم يغادرها فتعرض للاضطهاد والاعتقال والتعذيب، حيث سيق إلى "القلعة" فحبس بها، وعذب بالضرب، وصودرت أمواله، فتحمل كل ذلك في شجاعة وصبر هو وأهل بيته.
وفي مقابل ذلك فهناك من تعاون مع الفرنسيين ومال إليهم:
- فمنهم: الشيخ "خليل البكري" الذي سعى لدى الفرنسيين؛ لتعيينه في منصب نقيب الأشراف بدلاً من الشيخ "عمر مكرم"، فقلدوه هذا المنصب(6)، فكان يقدر ذلك لـ"نابليون"، ويسعى لإرضائه، ويقدم إليه الهدايا(7)، وارتضى أن تكون داره المكان المختار لسهرات "نابليون" ومجونه(8)، "وانتهى الأمر بأن وثـَّقت ابنته زينب البكرية صلاتها بالفرنسيين وعلى رأسهم: "بونابرت" حتى أوغل المعاصرون لها والمؤرخون والباحثون في شرفها وعرضها إيغالاً بعيدًا"(9)، لذا؛ هاجم المصريون منزل الشيخ "خليل البكري" خلال "ثورة القاهرة الثانية"، وأخرجوه منه مع حريمه وأولاده وساقوه حافي القدمين عاري الرأس، وشتموه وسبوه(10)، وبعد جلاء الفرنسيين من "مصر" تم استدعاء الشيخ خليل البكري، فعزل من نقابة الأشراف، وأعيد المنصب إلى "عمر مكرم"(11)، وقتلت ابنته زينب جزاء سلوكها المنحرف(12).
- ومنهم: الشيخ "محمد المهدي" الذي شغل "أمين سر الديوان" الذي عينه "نابليون"؛ لحكم "القاهرة" من المصريين، حيث جعله أحد أعضائه في ديسمبر 1798م، فكان من أكثر المشايخ تقربًا للفرنسيين، وصاحب حظوة كبيرة لديهم(13)، فوثقوا به وأكرموه، وأقاموه وكيلاً عنهم في أشياء كثيرة(14)، لذا؛ أحرق الثوار منزله أثناء "ثورة القاهرة الثانية".
- ومن نصارى "مصر" من تعاون مع الفرنسيين يرى في وجودهم رفعته خاصة "نصارى الأروام"، لذا؛ هاجم الثوار حارات "نصارى الأروام" الذين ساندوا عسكر الفرنسيين وأعانوهم خلال ثورة القاهرة الثانية(15).
ومن أشهر من عاون الفرنسيين من نصارى "مصر": "يعقوب بن حنا"، وهو مصري؛ ولد في "ملوي" بالقرب من "أسيوط"، سنة 1745م لأسرة متوسطة الحال، وتلقى تعليمه كأقرانه في أحد الكتاتيب القبطية المنتشرة في صعيد "مصر"، وعمل في صباه مساعدًا لبعض الكتبة، وفي عهد "علي بك الكبير" التحق بخدمة "سليمان بك" أغا "الانكشارية"؛ ليدبر له التزامه في "أسيوط"، ويجبي أمواله ويضبط دفاتر حساباته، وليتعلم -أيضًا- الفروسية(16).
فلما دخل الفرنسيون "مصر"؛ جعلوه ساري عسكر حيث "جمع شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية مميزين عنهم بقبع، يلبسونه على رءوسهم مشابه لشكل البرنيطة، وعليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم"(17)، و"صيرهم عسكره وعزوته وجمعهم من أقصى الصعيد"(18)، وقد جعله الفرنسيون في خدمتهم، لذا؛ فعند جلاء الفرنسيين عن "مصر" رحل معهم؛ حيث تم إجلاء الجنود الفرنسيين على سفن إنجليزية طبقـًا للاتفاق الموقع بين الفرنسيين والعثمانيين والإنجليز.
فاستقل "يعقوب بن حنا" الفرقاطة الإنجليزية -"بالاس"- "التي أبحرت من رشيد في العاشر من أغسطس سنة 1801م بقيادة الكابتن "جوزيف إدموندز" وهي تحمل على سطحها بعضًا من بقايا جنود الحملة الفرنسية المنسحبين من مصر"(19)، حيث توفي بعد يومين من إبحار الفرقاطة الإنجليزية قبل وصولها إلى "مرسيليا"، وخلال هذين اليومين "تدور بينه وبين الكابتن "جوزيف إدموندز" قموندان الفرقاطة حوارات حدثنا عنها الأخير قائلاً: "والسفينة "بالاس" الموضوعة تحت أمرتي قد استقبلت على ظهرها في "مصر" قبطيًّا ذا سمعة ممتازة، وهو أحد زعماء هذه الطائفة، ويتمتع بحكم هذه الصفة بنفوذ عظيم.
وقد جعله الفرنسيون قائدًا على فيلق؛ ليحصلوا على مساعدته، وقد أظهرت نحو هذا المنفي العاثر الحظ بعض مظاهر الرعاية الخفيفة؛ فدفعه ذلك إلى محادثتي عن وطنه، وصرح لي أن من رأيه أن أي حكومة تحكم بلاده تفضل حكومة الترك، وأنه انضم إلى الفرنسيين بدافع من رغبته الوطنية في تخفيف آلام مواطنيه، وإن الفرنسيين خدعوهم، ولهذا؛ فالمصريون(20) -الآن- يحتقرونهم احتقارهم للترك فيما مضى، وإنه لا يزال يأمل في خدمة بلاده بواسطة الحكومات الأوروبية، ويعتقد أن رحلته إلى "فرنسا" سوف تسفر عن هذه النتيجة"(21).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) توقع الإنجليز المراقبون لتحركات الأسطول الفرنسي في البحر المتوسط إمكانية قدومه لمصر.
(2) نقلاً عن الرافعي "مصر المجاهدة في العصر الحديث". ص(13).
(3) "تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن التاسع عشر" عبد الجواد يس. ط. المختار الإسلامي. ص(44).
(4)، (5) راجع في ذلك: "عمر مكرم بطل المقاومة الشعبية" سلسلة أعلام العرب العدد (67) ط. دار الكاتب العربي يوليو 1967م. ص(35).
(6)، (7) راجع "عمر مكرم بطل المقاومة الشعبية". ص(48).
(8) راجع المصدر السابق: ص(56).
(9) المصدر السابق: ص(56)، نقلاً عن الجبرتي ط. بولاق 1297هـ ج(3) ص(192)، وج(4) ص(87).
(10) راجع المصدر السابق: ص(70).
(11)، (12) راجع المصدر السابق: ص(88).
(13) راجع المصدر السابق: ص(58).
(14) راجع المصدر السابق: ص(59) نقلاً عن الجبرتي ج(4) ص(233- 237).
(15) انظر "مصر من تاني" محمود السعدني ط. كتاب اليوم: ص(97).
(16) راجع "القومية المصرية" د/ السيد نصر الدين السيد. ط. كتاب اليوم ص(52).
(17)، (18) المصدر السابق: ص(53)، نقلاً عن الجبرتي (ج2/45).
(19) "القومية العربية". د/ السيد نصر الدين ص(52).
(20) يقصد: نصارى مصر؛ إذ أن ولاء مسلمي مصر كان للأتراك والسلطان العثماني قبل ظهور الدعوة إلى "القومية" بعد دخول "التغريب" و"العلمانية" إلى بلادنا.
(21) "القومية المصرية": ص(54).