الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 07 أكتوبر 2025 - 15 ربيع الثاني 1447هـ

بين الوحي والعلم التجريبي

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فيتميز مفهوم الوحي باتفاق المؤمنين به على حقيقته ومدلولاته، بغض النظر عن اختلافهم في الأمور الأخرى.

والوحي في اللغة: يعني الإعلام الخفي، ففي لسان العرب لابن منظور: (الوحي: الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك). قال الأزهري: (وأصل الوحي في اللغة كلها إعلام في خفاء؛ ولذلك صار الإلهام يُسمَّى وحيًا). وكذلك تسمية الإشارة والإيماء وحيًا، وتسمية الكتابة وحيًا.

فالوحي لغة لا ينحصر في الوحي المنزل من الله -تعالى- على الرسل والأنبياء، بل الوحي لغة يتضمن كذلك: 

- الإشارة والإيماء على سبيل الرمز والإيحاء، كما في إشارة نبي الله زكريا -عليه السلام- لقومه والتي سماها القرآن وحيًا في قوله -تعالى-: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (مريم: 11).

- الإلهام الغريزي، كما في الوحي إلى النحل في قوله -تعالى-: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) (النحل: 68).

- الإلهام الفطري للإنسان، كما في الوحي إلى أم موسى -عليه السلام- في قوله -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي. إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) (القصص: 7).

ما يُلقيه الله -تعالى- على ملائكته من أوامر، كما في قوله -تعالى-: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (الأنفال: 12).

- وسوسة الشيطان وتزيينه للشر في نفوس أوليائه، كما في قوله -تعالى-: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) (الأنعام: 121).

أما الوحي اصطلاحًا وشرعًا -وهو المراد هنا- فهو: (إعلام الله -تعالى- رسله وأنبياءه بما يريد أن يُبلِّغهم به من كتاب أو شرع بواسطة أو بغير واسطة)؛ فالوحي هو إعلام من الله -تعالى- إلى رسله وأنبيائه خفية وفي سرية، كي يُوصل الله -تعالى- إليهم ما يريد إيصاله لهم من علم وحكمة، وأمر ونهي وإرشاد، وغير ذلك؛ قال -تعالى-: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ. وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) (النساء: 163).

وهذا المعنى الاصطلاحي متفق عليه عند المؤمنين به، أنه نوع اتصال بين الله -تعالى- والرسل والأنبياء الذين اصطفاهم الله -تعالى- لتبليغ الحقيقة للناس.

وفي الشرع تفريق بين وحي الله لرسله وأنبيائه وبين الإلهام، وبين الوحي بالقرآن وغيره من أنواع الوحي التي يمكن أن تُوحَى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.

أهمية الوحي مصدرًا للعلم:

لم يكن الخلاف بين الرسل والأنبياء وغالب من كفر بهم حول وجود الخالق من عدمه، بل حول اتِّباع ما جاء به الرسل والأنبياء، واتِّخاذ ما جاءوا به من الوحي المأمورين بتبليغه للناس مصدرًا للعلم ومنهاجًا للحياة؛ فالمؤمنون بالرسل والأنبياء يؤمنون بالوحي، ويتَّخذونه مصدرًا أساسيًّا لمعرفة حقائق الإيمان وأمور الغيب وأوامر الله -تعالى- ونواهيه، بينما يعتقد الكفار في مصادر أخرى للعلم ليس منها الوحي، منها مصادر العلوم الدنيوية، ومنها النجوم والكواكب والجن والكهنة والعرافون وغير ذلك.

وحاجة الناس للوحي لا غنى عنها، لكون الوحي طورًا فوق طور العقل، ولا بد منه لتلقِّي العلم من الله -تعالى-، ولكون الوحي فيه تلبية للحاجة إلى معرفة الأمور الغيبية؛ لقد نزل الوحي بحقائق وتفاصيل متعلقة بالغيب مما لا طاقة للعقل ولا قدرة على الوصول إليها، من الإخبار عن الله -عز وجل- وصفاته وأسمائه، والإخبار عن يوم القيامة والساعة، والإخبار عن الجنة والنار، وغير ذلك مما لا مجال للعقل للبحث فيه، إلى جانب العبادات والتشريعات والأخلاق والمعاملات مما أمر الله -تعالى- به ويحبه، ومما نهى الله -تعالى- عنه ولا يحبه، وكلها أمور أيضًا لا تُدرَك بالعقل، وعلى العبد أن يتعلَّمها ويعرفها عن طريق الوحي، ويتبعها ويعمل بمقتضاها.

وللوحي سمات ليست في غيره، منها:

- إنه من عند الله -تعالى-؛ فهو بذلك أعلى درجات اليقين، وهو العلم التام والحقيقة المطلقة التي لا شك فيها ولا ارتياب. وهو بذلك علم منزَّه عن الأهواء، لا يتأثر بالعوارض وتغيرات الأحوال والظروف، أنزله من علمه مُحيط بكل زمان وبكل مكان، لا يخفى عليه شيء من أحوال الناس وطبائعهم أينما وُجدوا وحيثما كانوا، ويعلم ما يحتاجون إليه وما فيه الخير التام لهم في الدنيا وفي الآخرة. فالوحي فيه من الإحاطة الشاملة والحقائق الضرورية ما ليس في غيره.

- إنه أكبر ما يُفرَّق به بين الحق والباطل، وفيه الفصل البيِّن بين الآراء والرؤى المختلفة في القضايا العقائدية والمصيرية، ببيان العقيدة الحقة والصواب فيما اختلفت فيه الأمم والأقوام، ويجيب بوضوح لا غموض فيه عن كثير من الأسئلة الوجودية التي طالما احتار فيها الناس في كل زمان ومكان. ففيه من الهدى في هذا المجال ما لا في غيره، ولا يُستغنَى بغيره عنه؛ قال -تعالى-: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل: 64).

- إن الله -تعالى- تكفَّل بعصمة رسله -صلوات الله عليهم وسلامُه- في التبليغ، وتكفَّل بحفظ المُبلَّغ به من التحريف والتبديل حتى يبلغه الرسل لخلقه؛ فقد اتفقت الأمة على أن الرسل معصومون في تحمُّل الرسالة، فلا ينسون شيئًا مما أوحاه الله إليهم إلا شيئًا قد نُسخ. وقد تكفَّل الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يُقرئه فلا ينسى شيئًا مما أوحاه إليه، إلا شيئًا أراد الله أن يُنسيَه إياه؛ قال -تعالى-: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) (الأعلى: 6-7)، وهم معصومون في التبليغ، فالرسل لا يكتمون شيئًا مما أوحاه الله إليهم، ذلك أن الكتمان خيانة، والرسل يستحيل أن يكونوا كذلك؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (المائدة: 67)

ولو حدث شيء من الكتمان أو التغيير لما أوحاه الله فإن عقاب الله يحل بذلك الكاتم المغير، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (الحاقة: 44-46) (انظر: الرسل والرسالات، د. عمر سليمان الأشقر، مكتب الفلاح ودار النفائس، الكويت، ط. الرابعة 1410هـ - 1989م، ص 97).

- إنه يُعلِّمنا ويُعرِّفنا بجوانب لا يمكن أن نُدركها نحن بعقولنا القاصرة، ولا تصل إليها حواسنا المحدودة، ولكن يختص الوحي بذكرها وبيانها، كالكلام عن أسماء الله -تعالى- وصفاته -عز وجل-، وعن تفاصيل اليوم الآخر، والجنة وما فيها والنار وما فيها، وما يتعلق بذلك من تفاصيل. إذ إن المهمة الأولى للوحي هداية الناس إلى الاعتقاد الصحيح، والإخبار بحقائق الغيب التي نحتاج إلى معرفتها، ولا يمكن الوصول إلى معرفتها إلا بالوحي.

- إن المُبلِّغين للوحي ليسوا من أحاد الناس وعوامهم، بل هم ممن اصطفاهم الله -تعالى- وهيَّأهم لتلقِّي الوحي وإيصاله إلى الناس، وهم أيضًا من أكمل الناس عقلًا وخُلُقًا، ممن لا مجال للطعن فيهم أو التشكيك في صدقهم؛ كما أنه ليس لأحد القدرة على أن يكتسب الوحي أو يصل إليه بعقله مهما علا في العلوم، ولا أن يُدركه مهما مارس من الرياضات، فالوحي فوق مستوى البشرية.

- فالوحي إذًا مصدره الله -تعالى-، بعيدًا عن التحيُّزات أو الأهواء، وطريق نقله معصوم، ونطاق الحقائق التي يتناولها شاملة، ورسالته عامة لكل زمان ومكان لا تتغير؛ قال ابن تيمية: (لولا الرسالة لم يهتدِ العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد) (انظر: آدم عليه السلام بين التطور والتطور الموجه والوحي، تأليف إبراهيم الشحات محمد خميس، مركز تكوين، الخبر، السعودية، ط. أولى 1440هـ - 2019م، ص 49-50، نقلًا عن مجموع الفتاوى، ط. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف: 19/155).

ويضيف ابن تيمية أيضًا: (الأنبياء جاءوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم يجيئوا بما تَعلَم العقول بطلانه، فهم يُخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول) (انظر: الرسل والرسالات: 36-37، نقلًا عن مجموع الفتاوى لابن تيمية، جمع ابن قاسم، ط. الرياض، ط. أولى، 2/312).

نطاق العلم الذي يختص به الوحي:

نطاق الوحي أكبر بكثير من نطاق العلوم الدنيوية، فهو يتناول القضايا الكبرى التي تتعلق بالغاية من وجود الإنسان على الأرض، وبيان ما يجب أن يكون عليه من الاعتقاد، وما عليه من التكاليف الشرعية، وكيف تكون علاقة العبد بربه. وهذا يتضمن أمورًا وتفاصيل كثيرة اختص بها الوحي ولا يمكن أن تُعلَم إلا عن طريقه ولا يمكن أن يستقل العقل البشري بمعرفتها. فالوحي بهذا هداية من الله عز وجل إلى عباده لينالوا باتِّباعها السعادة في الدنيا والآخرة.

العلم التجريبي:

- العلم التجريبي هو نهج يعتمد على التعلُّم من خلال نتائج التجارب المباشرة لا من العلم النظري فقط، فهو منهج يعتمد على الملاحظة المباشرة والتجارب العملية لاكتساب المعرفة وفهم وتفسير الظواهر الطبيعية، حيث يتم جمع الأدلة الملموسة بشكل منهجي بغرض اختبار الفرضيات ووضع نظريات قابلة للاختبار. والعلم التجريبي هو الركيزة الأساسية للعلوم الطبيعية والاجتماعية مثل: الفيزياء والكيمياء والأحياء. والعلم التجريبي الحديث هو المنهج العلمي المتبع اليوم للتحقق من صحة فرضية ما، فإما أن يثبتها فتغدو حقيقة علمية، أو ينفي صحتها فتصبح معلومة خاطئة.

- ويعتبر الغرب فرانسيس بيكون (1561م - 1626م) واضع أسس المنهج التجريبي، حيث قاد الثورة العلمية في أوروبا من خلال الفلسفة القائمة على الملاحظة والتجريب، فهو من الرواد الذين انتبهوا إلى عدم جدوى المنطق الأرسطي (نسبة إلى أرسطو) الذي يعتمد على القياس. 

ويُعَدُّ العالم الحسن بن الهيثم (965 - 1040م) (354 - 430هـ): حقيقة هو رائد العلم التجريبي الحديث من قبل فرانسيس بيكون، بعدة قرون من خلال منهجه العلمي والتجريبي في البصريات، فقد طور طرقًا تجريبية لتقييم صحة النظريات بطريقة مشابهة للمنهج العلمي الحديث. 

وكذلك يُعَدُّ جابر بن حيان: من أوائل من أسس المنهج العلمي التجريبي؛ فالعلماء المسلمون هم أول من قاموا بوضع وتطوير المنهج التجريبي بشكل ملحوظ، فابن الهيثم استخدم في علم البصريات طرقًا دقيقة لإجراء التجارب العلمية والتحقق من صحة الفرضيات مما يُعَدُّ أساسًا للمنهج العلمي الحديث. أما جابر بن حيان فقد أدخل المنهجية التجريبية في علم الكيمياء وابتكر عمليات كيميائية مثل التبلور والتكليس والتقطير.

والعلم التجريبي على أهميته؛ إلا أنه مبني على الملاحظات التي بُنيت عليها افتراضات قوية أو ضعيفة، وهي يمكن أن تتغير من وقت لآخر، وكثير من النظريات العلمية اعتراها التغيير على مر السنين، ومنها ما ظنَّه العلماء يومًا ما أنها حقائق علمية ثابتة.

بين الوحي والعلم التجريبي:

لا تعارض بحال من الأحوال بين صحيح العلم التجريبي وثابته وبين صحيح الوحي ثبوتًا ودلالة. والتعارض إن وجد فينشأ بين العلم الزائف أو الخطأ وبين الوحي قطعي الثبوت والدلالة، أو بين صحيح العلم والوحي ظني الثبوت أو الدلالة؛ فالعلم التجريبي الذي هو حقيقة لا تتغير بتقدم العلوم، حقيقة ثبتت ثبوتًا قطعيًا وبدلالة قطعية على شيء معين، فلا يوجد بينها وبين الوحي قطعي الثبوت والدلالة تعارض؛ إذ لا يُتصوَّر أن يوجد تعارض بين الكون الذي خلقه الله -تعالى- وأودع فيه الحقائق، وبين الوحي المعصوم الذي أنزله تعالى. بينما ينشأ التعارض فيما دون ذلك، كأن يكون العلم ظنيًا (فرضية أو نظرية أو مجرد تفسير)، أو يكون الوحي ظنيًّا (من حيث الثبوت أو من حيث الدلالة أو كليهما معًا)، أو يكون كلا من العلم والوحي ظنيين.

ونُزيد الأمر إيضاحًا فنقول:

إن الدليل الثابت شرعًا إما أن يكون قطعيًّا في دلالته وإما أن يكون ظنيًّا، والأمر الثابت عقلًا إما أن يكون قطعيًّا لا اختلاف بين الناس فيه، وإما أن يكون ظنيًّا أي محل اختلاف واجتهاد في الأخذ به أو تركه، وعلى هذا فيستحيل أن يتناقض قطعيان أيًا كان مصدرهما، العقل أو الشرع؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة، لكن يمكن أن يتعارض قطعي وظني، وهنا يُقدَّم القطعي أيًا كان مصدره؛ كما يمكن أن يتعارض ظنيان، وهنا يجب إعمال الجهد في المفاضلة بينهما بطرق الترجيح المعتبرة لدى العلماء. 

والغالب أن ما يظنُّه البعض أو يتصوَّره تعارضًا بين العقل والشرع هو في الحقيقة تصور في الذهن البشري القاصر، إما بسبب فهم خاطئ للنصوص، أو بسبب علم مكتسب غير قطعي يتصوَّره صاحبه من الحقائق العلمية اليقينية وليس الأمر كذلك.

والإيمان المبني على التسليم للوحي جعل الموقف السلفي في هذه القضية يقوم على أساس دخول العقل تحت الوحي، بمعنى أن الوحي هو الموجِّه، وله السيادة، والعقل تابع، يمارس عمله ووظيفته في ظل توجيهات الوحي وإرشاداته، وبهذه التبعية من العقل للوحي يستقيم الأمر (راجع: السلفية وقضايا العصر: 199-203).

قال ابن تيمية: (ثم الشرعي قد يكون سمعيًّا وقد يكون عقليًّا، فإن كون الدليل شرعيًّا يُراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويُراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه. فإن أُريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما يكون معلومًا بالعقل أيضًا، ويكون الشرع نبه عليه فيكون شرعيًّا وعقليًّا، كأدلة التوحيد والمعاد ونحوها. وإما يكون الدليل الشرعي لا يُعلَم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يُعلَم إلا بخبره كان ذلك شرعيًّا سمعيًّا. وأما إذا أُريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه القرآن، وما دلَّت عليه وشهدت به الموجودات) (راجع: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، 1/190).

لقد أدرك السلف أنه لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصحيح، وعرفوا قدر العقل في تأييد ما جاء به الشرع، وأكثروا من التأمُّل في الآيات الكونية، والنظر في الأمثلة العقلية الشاهدة على صدق الكتاب والسنة، والدالة على صحة العقائد الإسلامية، فألحقوا النظر العقلي بالأدلة الشرعية، وأمعنوا في دراسة كتاب الكون المنظور، كما أمعنوا في دراسة الوحي المقروء، ومكَّنتهم رجاحة عقولهم وسلامة منهجهم واجتنابهم لمتاهات الفلاسفة واضطراب المتكلمين من الوصول إلى موافقة العقل للشرع في كل ما جاء به، وأنه لا تعارض بينهما، وأقاموا بذلك الحجة البالغة لمن تأمَّل كلامهم ودرس علمهم، ووعى ما قالوا وما كتبوا.

إن العلوم منها ما هو يقيني قطعًا ومنها ما هو ظني لا يصل إلى درجة اليقين وإن كان مبنيًّا على أسس استنباطية صحيحة، ومنها ما يخضع للتجربة، ومنها ما يُدرَك بالاستنباط، ومنها ما لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق الوحي المعصوم. يقول ابن تيمية في تعريف العلم: (العلم إما نقل مصدَّق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيَّف مردود، وإما موقوف لا يُعلَم أنه بهرج ولا منقود) (ينظر: المصدر السابق، ص 37، نقلًا عن مجموع الفتاوى 13/329-330).

إن العلوم التي لا تخضع -أو لا يمكن في العقل السليم أن تخضع- للتجربة ليست داخلة في إطار العلم التجريبي؛ فإن قابلية الاختبار تعني أنها أمور لا يُدرَى نتيجتها حتى يتحقَّق منها بالاختبار أو التجربة، والتفسيرات المتعلقة بالأمور الغيبية أو الخارقة للطبيعة تقبع خارج نطاق ما يمكن دراسته من خلال العلم التجريبي.

إن من أسوأ صور الاضطراب في الفكر البشري أن يتداخل العالمان -الغيب والشهادة- المختلفان بعضهما في بعض في تصور الناس، والعلماء بالذات، فيقيسون بعضهما على بعض، ويستخدمون وسيلة المعرفة لأحدهما في الآخر، ونحو ذلك. وقد وقع لطوائف في البيئة الإسلامية تأثُّرًا بالفكر الوافد عليهم الذي كانت الفلسفة (الميتافيزيقية) مداخلة فيه العلوم الطبيعية والرياضية. 

أما السلف فقد وقفوا عند ضوابط الوحي في هذا المجال. فالوحي حينما يتحدَّث عن عالم الشهادة بما فيه من عناصر وظواهر، يقرنه بذكر الحواس والعقل والتفكُّر، تنبيهًا على أنها طرق الوصول إلى معرفة حقائقه، وكثيرة هي خواتيم الآيات القرآنية التي تتحدَّث عن آيات الله الكونية من مثل: تتفكَّرون، تُبصرون، تعقلون... كما تنبِّه الآيات -أيضًا- إلى اشتمال هذا الكون على المقادير والإحصاء العددي وتنوُّعات أشيائه ونحو ذلك، مما يغري بالتتبُّع والبحث والنظر. 

أما الغيب الذي لا يشهده الإنسان، وليس في متناول الحواس التي يطل منها العقل على الأشياء ليبني معارفه من خلالها ولا يدخل تحت المقاييس، فإنما وسيلته هي النبوة التي من خلالها يتلقَّى شخص من البشر أمده الله بقدرة تؤهله ليتصل بالعالم الغيبي، ويتلقَّى وحي الله ليبلِّغه إلى الناس، ولكن هذا التمييز لا يعني الفصل بين الدين (الوحي)، وعالم الغيب، وبين العقل والحس وعالم الشهادة، وفق الدعوة التي ينادي بها بعض العصرانيين، بحيث يعزل كل منهما عن الآخر، ويوقف كل مصدر منهما عن التدخُّل في مجال الآخر. كلا إن العقل يصل من خلال رؤيته للكون وسننه إلى الإيمان بالله وقدرته وعلمه، وهو غيب، والوحي وإن لم يقدِّم معارف طبيعية، إلا أن له توجيهات بشأن موجودات الكون وسننه، ينبغي أن يقرَّ بها العقل ويبني عليها. 

فالمقصود بالتمييز: رفض مسلك استبداد العقل بالمباحث الغيبية، كما وقع للفلاسفة وعلماء الكلام، ورفض اتجاه الذين يرون أن القرآن جاء بتفصيل العلوم الكونية، ويجهدون أنفسهم في استخراج نظرياتها واكتشافاتها من القرآن والسنة (انظر: السلفية وقضايا العصر: 295-297).

إن الذين يريدون أن يستغنوا عن الوحي بالعقل يُظلمون العقل ظلمًا كبيرًا، ويُبدِّدون طاقة العقل في غير مجالها، (إن للعقل اختصاصه وميدانه وطاقته، فإذا اشتغل خارج اختصاصه جانبه الصواب، وحالفه الشطط والتخبُّط، وإذا جرى في غير ميدانه كبا وتعثَّر، وإذا كُلِّف فوق طاقته كان نصيبه العجز والكلال. إن العالم المادي المحسوس أو عالم الطبيعة، هو ميدان العقل الفسيح الذي يصول فيه ويجول، فيستخرج مكنوناته، ويربط بين أسبابه وعلله، ومقدِّماته ونتائجه، فيكتشف ويخترع، ويتبحَّر في العلوم النافعة في مختلف ميادين الحياة، وتسير عجلة التقدُّم البشري إلى الأمام. أما إذا كُلِّف النظر خارج اختصاصه، أعني ما وراء الطبيعة، فإنه يرجع بعد طول البحث والعناء بما لا يروي غليلًا ويُشفي عليلًا، بل يرجع بسخافات وشطحات) (انظر: الرسل والرسالات: 38، وانظر: نظرات في النبوة، صلاح الدين مجيد، مكتبة القدس، بغداد: 17).

دور العقل في فهم الكون وتحقيق الهداية:

يزعم كثير من الناس أن الوحي يلغي العقل ويطمس نوره، ويورثه البلادة والخمول، وهذا زعم كاذب، ليس له من الصحة نصيب، فالوحي الإلهي وجَّه العقول إلى النظر في الكون والتدبُّر فيه، وحثَّ الإنسان على استعمار الأرض واستثمارها، وفي مجال العلوم المنزلة من الله وظيفة العقل أن ينظر فيها ليستوثق من صحة نسبتها إلى الله -تعالى-، فإن تبيَّن له صحة ذلك فعليه أن يستوعب وحي الله إليه، ويستخدم العقل الذي وهبه الله إياه في فهم وتدبُّر الوحي، ثم يجتهد في التطبيق والتنفيذ. والوحي مع العقل كنور الشمس أو الضوء مع العين، فإذا حُجب الوحي عن العقل لم ينتفع الإنسان بعقله، كما أن المبصر لا ينتفع بعينيه إذا عاش في ظلمة، فإذا أشرقت الشمس وانتشر ضوؤها انتفع بناظريه، وكذلك أصحاب العقول إذا أشرق الوحي على عقولهم وقلوبهم أبصرت واهتدت (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46) (ينظر: الرسل والرسالات).