فساد عقيدة اليهود في الأنبياء والرسل (1) (من تراث الدعوة)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد بيَّن الله -سبحانه وتعالى- في القرآن العظيم كفر اليهود بالأنبياء والرسل، وتكذيبهم لهم، وقتلهم لهم، فقال -عز وجل-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة:146).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ صِحّة مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)؛ كَمَا يَعْرِفُ أحدُهم وَلَدَهُ، والعربُ كَانَتْ تَضْرِبُ الْمِثْلَ فِي صِحَّةِ الشَّيْءِ بِهَذَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِرَجُلٍ مَعَهُ صَغِيرٌ: (ابْنُكُ هَذَا؟) قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشْهَدُ بِهِ. قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تجْنِي عَلَيْهِ) (رواه أحمد وأبو داود، وقال الألباني في تخريج مشكاة المصابيح: "إسناده جيد").
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَتَعْرِفُ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- كَمَا تَعْرِفُ وَلَدَكَ ابْنَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَكْثَرَ، نَزَلَ الْأَمِينُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَمِينِ فِي الْأَرْضِ بِنَعْتِهِ فَعَرَفْتُهُ، وَإِنِّي لَا أَدْرِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) مِنْ بَيْنِ أَبْنَاءِ النَّاسِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ وَلَا يَتَمَارَى فِي مَعْرِفَةِ ابْنِهِ إِذَا رَآهُ مِنْ بَيْنِ أَبْنَاءِ النَّاسِ كُلِّهِمْ.
ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا التَّحَقُّقِ وَالْإِتْقَانِ الْعِلْمِيِّ (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أَيْ: لَيَكْتُمُونِ النَّاسَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)" (تفسير ابن كثير).
وقال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (البقرة:87).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يَنْعَتُ -تبارك وتعالى- بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعُتُوِّ وَالْعِنَادِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَالِاسْتِكْبَارِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى مُوسَى الْكِتَابَ -وَهُوَ التَّوْرَاةُ- فَحَرَّفُوهَا وَبَدَّلُوهَا، وَخَالَفُوا أَوَامِرَهَا وَأَوَّلُوهَا. وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِشَرِيعَتِهِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (الْمَائِدَةِ: 44)؛ وَلِهَذَا قَالَ: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: أَتْبَعْنَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْدَفْنَا. وَالْكُلُّ قَرِيبٌ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) (الْمُؤْمِنُونَ: 44)، حَتَّى خَتَمَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَجَاءَ بِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ؛ وَلِهَذَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ: الْمُعْجِزَاتُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِبْرَائِهِ الْأَسْقَامَ، وَإِخْبَارِهِ بِالْغُيُوبِ، وَتَأْيِيدِهِ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ -عليه السلام-، مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ؛ فَاشْتَدَّ تَكْذِيبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ وحَسَدهم وَعِنَادُهُمْ لِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ فِي الْبَعْضِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- إِخْبَارًا عَنْ عِيسَى: (وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (آلِ عِمْرَانَ: 50)، فَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تُعَامِلُ الْأَنْبِيَاءَ -عليهم السلام- أَسْوَأَ الْمُعَامَلَةِ، فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَهُ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَهُمْ بِالْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِأَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَبِإِلْزَامِهِمْ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ التِي قَدْ تَصَرَّفُوا فِي مُخَالَفَتِهَا؛ فَلِهَذَا كَانَ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَيُكَذِّبُونَهُمْ، وَرُبَّمَا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)... وإِنَّمَا لَمْ يَقِلْ: وَفَرِيقًا قَتَلْتُمْ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ وَصْفَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ -أَيْضًا-؛ لِأَنَّهُمْ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالسُّمِّ وَالسِّحْرِ، وَقَدْ قَالَ -عليه السلام- فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: (مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي) (متفق عليه)، وَهَذَا الْحَدِيثُ في صحيح البخاري وغيره" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.