كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
من مكارم الأخلاق المنشودة "التودد":
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا. وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا) (رواه مسلم).
المقصود بالتودد:
التَّودُّد لغةً: من الوُدِّ، والوُدُّ مصدر الموَدَّة. والوُدُّ هو الحُبُّ ويكون في جميع مداخل الخير، والتواد التحاب.
واصطلاحًا: قال ابن حجر -رحمه الله-: "هو تقرُّب شخصٍ من آخر بما يحب"، وقال ابن أبي جمرة: "التَّوَادُد هو التَّواصل الجالب" (فتح الباري).
حاجتنا إلى التودد في زمان كثرت فيه الخلافات والخصومات والاعتداد بالنفس:
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم).
أنواع التودد:
التودد نوعان:
تودد محمود: وهو ما كان ناشئًا من محبة معتدلة لأهل الخير والصلاح(1).
قال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة: 71).
تودد مذموم: وهو التودد إلى الكفار والظالمين وفسقة الناس.
قال -تعالى-: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (المجادلة: 22).
التودد منه فطري وكسبي:
الفطري: من الناس من عنده ذلك طبيعة وفطرة ووراثة أحيانًا.
الكسبي: يكون بالتعلم والتدرب.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) (رواه الطبراني وابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني).
من صور التودد:
التزاور:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: (حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَوَاصِلِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).
التهادي:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَهَادَوْا تَحَابُّوا) (رواه البخاري في الأدب المفرد ومالك، وصححه الألباني).
الإعانة والمعاونة:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) (رواه مسلم).
التبسط والانبساط عند اللقاء:
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ) (رواه مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
التواصل بالوسائل العصرية الحديثة: مثل الهاتف، الإنترنت بفروعه، البرقيات والبوستات (أحبك في الله - بارك الله لك في أهلك ومالك - ...).
شواهد التودد في القرآن والسنة:
التودد بين الزوجين:
قال الله -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
المرأة الودود الولود:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
محبة الصالحين:
قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (مريم:96).
تحمل الأذى:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم).
ومن كلام السلف في التودد:
قال عمر -رضي الله عنه-: "ثلاثٌ يُصفّينَ لك وُدَّ أخيك: أن تُسَلِّمَ عليه إذا لقيته أولًا، وتوسِّعَ له في المجلس، وتدعوه بأحبِّ أسمائه إليه".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "التَّقدير نصف الكسب، والتَّودُّد نصف العقل" (إحياء علوم الدين).
النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة في التودد:
تودُّد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وهو صاحب المقام العالي: عن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: "ما حَجَبَني النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منذُ أسلمتُ، ولا رآني إلا تَبَسَّمَ في وجهي" (متفق عليه). "وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمرُّ بالصِّبيان فيُسلِّم عليهم" (متفق عليه).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ، وَشَمِمْتُ الْعِطْرَ كُلَّهُ، فَلَمْ أَشُمَّ نَكْهَةً أَطْيَبَ مِنْ نَكْهَتِهِ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَامَ مَعَهُ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ يَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَإِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَتَنَاوَلَ يَدَهُ، نَاوَلَهَا إِيَّاهُ، فَلَمْ يَنْزِعْ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ عَنْهُ، وَإِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَتَنَاوَلَ أُذُنَهُ، نَاوَلَهَا إِيَّاهُ، فَلَمْ يَنْزِعْهَا عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُهَا مِنْهُ" (أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى، وحسنه الألباني).
وعن سهل بن حنيف -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأتِي ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَزُورُهُمْ، وَيَعُودُ مَرْضَاهُمْ، وَيَشْهَدُ جَنَائِزَهُمْ" (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
عوامل اكتساب خلق التوادد في عناوين:
1- التواضع: (المتكبِّر لا يتودَّد، وله تأويلات كثيرة: يقلل من شخصيَّتي ومكانتي - أنا أعلى منه قدرًا - ...).
2- لين القول وحسنه: (فالغلظة والفظاظة حاجز في طريق التودد).
3- إغلاق باب الجدال والمراء: (فالخلاف الكثير يغير القلوب ويفسد الوُد).
4- السخاء والجود والإيثار: (فالبخيل والشحيح يحسب كل شيء بالمقابل المادي).
5- بسط الوجه، وبذل العون عند المعاملة: (فهي مفاتيح للقلوب لتأليفها).
نسأل الله الغفور الودود، أن يمنَّ علينا بودِّه، وأن يجعل بيننا وإخواننا الود.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) والذين نتودد إليهم أنواع، وحكم التودد إليهم أنواع؛ فمنهم: الآباء والأمهات، ومنهم الأبناء والقرابات والأرحام، ومنهم الأزواج والأصهار، ومنهم الأصحاب والمشايخ والعلماء، ومنهم الجيران والزملاء.
فمنهم مَن يكون التودد إليه واجبًا، ومنهم من يكون مستحبًا.
وبالجملة: يتفاوت الحكم بين الواجب والمستحب في حق مَن يشرع لنا التودد إليهم.