كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمِن الذين كان محمود شاكر شديدَ الوفاءِ لهم: السَّيِّدُ محمد نَصِيف؛ الذي استضافه في مدينةِ جُدَّة.
فقد قال الأستاذُ محمود في مقالِه "الشَّريف الكِتّانيّ"، الذي نَشرتْه مَجَلَّةُ "المُقتطَف" (المجلد 82/ إبريل 1933 / ص: 483 - 486):
(هُمَا رَجُلانِ أَلَانَ اللهُ لهما مِن صَخْرَتِي أَوَّلَ ما رأيتُهما: السَّيِّدُ الجليلُ "محمد نصيف"، كبيرُ جُدَّة، وعِمادُ الحجاز، والأملُ المُمتَدُّ في جزيرةِ العرب.
وهذا السَّيِّدُ المُبارَكُ، مُحَقِّقُ العالَمِ الإسلاميّ، وعُمدَةُ التّاريخِ العربيّ "محمد عبد الحيّ بن عبد الكبير الكِتّانيّ الإدريسيّ"، واحِدُ فاس، وكبيرُ مَراكِش، والعَلَمُ الشّامخُ بين أعلامِ الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ في هذا العَصْرِ ما بينَ الصِّينِ إلى رباطِ الفَتْحِ مِن المَغْرِبِ الأقصى) (انتهى).
وقال أيضًا في مقالِه "مقاليد الكتب"، الذي نَشرتْه مَجَلَّةُ "المُقتطَف" (المجلد 83 / أكتوبر 1933 / ص: 359): (<ماضي الحجازِ وحاضِرُه>: الجُزءُ الأَوَّلُ: تأليف "حسين بن محمد نصيف" بجُدَّة الحجاز، مطبعة خُضير؛ كان غيري أحقَّ بالكتابةِ عن هذا الكتابِ، فإنّ لِلأخِ "حسين" ووالدِه عندي نِعَمًا مَشْكُورَةً ما بَقِيتُ، وأنّ الصَّداقةَ التي بيني وبينه لَتَجْعَلُ بعضَ أخطائِهِ في نَفْسِي بمنزلةٍ مِن الصَّواب) (انتهى).
وقد ذكرنا في مقالٍ سابقٍ أنّه قال عن مكتبتِه: لا مَثِيلَ لها في العالَمِ العربيّ.
قال خيرُ الدِّينِ الزِّرِكْلِي (ت: 1396) في "الأعلام" (ج 6 / ص: 107، 108): "محمد بن حسين بن عمر بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد نصيف: عالِمُ جُدَّة، وصَدْرُها في عصره؛ وُلِدَ بها، وتُوفِّي مُستَشفِيًا بالطَّائفِ، ودُفِنَ بِجُدَّة".
مات والدُه وهو صَغِيرٌ، فربّاه جَدُّهُ عُمَر؛ وأُولِعَ بالكُتُبِ فجمع مكتبةً عظيمةً، ونشر كُتُبًا سلفيَّةً وأعان على نشر كثيرٍ منها، وكَتَبَ في الرُّدُود.
وكان مَرْجِعًا لِلْباحثِينَ؛ قال أمينُ الرَّيحانِيُّ في "ملوك العرب": "هو دائرةُ معارفَ ناطِقةٌ، يجيب على السُّؤالاتِ التي تُوَجَّهُ إليه، ويَهدِي إلى مَصادِرِ العُلُومِ الأدبيَّةِ والتَّاريخيَّةِ والفقهيَّة".
ومِن خَطِّ الشَّيخِ ابنِ مانعٍ، قال: "لَم نَعلَمْ في الحِجَازِ رَجُلًا يُساوِيه في الكَرَمِ وحُسْنِ الخُلُق؛ وفي 25 شبعان سنة 1376 كنتُ في بيتِه بجُدَّة، وسألتُه عن أَصْلِ نَسبِه، فأجاب: الأصلُ مِن صعيدِ مِصرَ، وجماعتُنا في الصَّعيدِ يَدَّعُونَ أنَّهم مِن قبائلِ حَرْبٍ، ولكن جَدِّي عمر كان يرى أنَّهم ليسوا مِن العرب".
وكان بيتُه مُلتَقى الفُضلاءِ القَادمِينَ مِن مُختَلفِ البلادِ؛ كتب السَّيِّدُ محمد رشيد رضا في "المَنارِ" فَصْلًا عنوانُه: "محمد نَصِيف، نِعْمَ المُضِيف".
وكان حُلْوَ الحديثِ، قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ، لا يكاد يَصْدُرُ كتابٌ ممّا يَرُوقُهُ إلا اشترى مِنْهُ نُسَخًا وأهداها إلى المكتباتِ العامَّةِ وبعضِ مَعَارِفِه، وخَلَّفَ مكتبةً حافلةً بالمخطوطاتِ والمطبوعات) (انتهى).
وقال الشَّيخُ محمد رشيد رضا (ت 1354) في فَصْلِهِ الذي كَتَبَهُ في "المَنَارِ": (نزلتُ بجُدَّة في دار السَّيِّدِ محمد نصيف، وهي كأنَّها مَجمعٌ علميٌّ يحتوي على مكتبةٍ عامرةٍ، يَؤُمُّهُ جميعُ أقطابِ جُدَّة وأشرافِها. والسَّيِّدُ محمد نصيف عالِمٌ مُحَقِّقٌ، ورَجُلٌ شَرِيفٌ يَزُورُهُ جميعُ مَن يَمُرُّ بجُدَّة مِن العُلَماءِ والنُّبَلاءِ قَبْلَ ذَهَابِهم إلى مكّة) (انتهى).
وقال الدُّكتور محسن جمال الدِّين (1918 - 1988) -وكان أستاذًا بكُلِّيَّةِ الآدابِ ببغداد- في رثائِه -وقد زار محمد نصيف عام 1389-: "وهو مِن مَشْهُورِي السُّمْعَةِ الأدبيَّةِ والثَّقافيَّةِ.. ولَم يُتْعِبْنِي البحثُ عن دارِه، فهي معروفةٌ مشهورةٌ، فَالْكُلُّ يعرفونه بـ (الأفندي).. فوجدتُه بيتًا قديمًا عاليًا، أمامه ساحةٌ صغيرةٌ تُؤدِّي إلى سُوقٍ شَعْبِيٍّ، تَقَعُ في مَحَلَّةِ اليَمَنِ، بناها جَدُّهُ عمر أفندي نصيف عام 1295، مُؤلَّفةٌ مِن أربعةِ أدوارٍ، وأمامها شجرةٌ يُقَالُ إنَّها أَوَّلُ شجرةٍ غُرِسَتْ في جُدَّة" (انتهى).
ونُكمِلُ وقفاتِ هجرةِ الأستاذِ محمود شاكر إلى الحجازِ وعودتِه منها، في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
ونَسألُ اللهَ التَّوفِيق.