كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمِن الوقفاتِ مع هجرةِ الأستاذِ محمود شاكر مِن مِصرَ، وعودتِه إليها:
الوقفةُ الرَّابعةُ:
وَلاؤُه الشَّديدُ لِأَرضِ الجَزيرةِ، وهو الذي دفعه إلى الهجرةِ إليها؛ فقد قال عنها في مقالِه "مقاليد الكتب"، الذي نَشرتْه مَجَلَّةُ "المُقتطَف" (المجلد 84 / يناير 1934، ص 111، 112): (2- قَلْبُ جَزيرةِ العربِ): تأليفُ "فؤاد حمزة"، المطبعة السَّلفيَّة ومكتبتها، سنة 1352 - 1933.
وهذه الجزيرةُ -على ما فيها مِن الضَّعفِ- هي مادَّةُ هذا التَّناصُرِ، وهي مَهوى قُلُوبِ الأممِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، وهي مَعقِدُ الآمالِ، وهي حِصْنُ العربِ، وإليها تُحْشَدُ القُوى الأعجميَّةُ وتُدَبَّرُ الدَّسَائِسُ، وفيها تُلْقَى الفِتَنُ وتُوقَدُ نِيرَانُ العَداوةِ بين أهلِيها).
الوقفةُ الخامسةُ والأخيرةُ:
حالةُ القَلقِ المُستَمِرَّةُ التي كان يَعِيشُها الأستاذُ محمود بسببِ حادثةِ الجامعةِ وخلافِه مع د. طه، وقد اعتَرفَ بهذا غيرَ مرَّةٍ، كما ذَكَرْنا سابقًا.
ومِن مظاهر ذلك:
أوَّلًا: التَّرَدُّدُ الذي ظهر عليه حينما أقصى جميعَ كُتُبِ د. طه حينما بدأ في إعدادِ العُدَّةِ لِهجرةِ الحِجازِ، ثمّ اشتراها مرَّةً أخرى حينما استَقرَّ في جُدَّة؛ فقد قال في مقالِه "المُتَنَبِّي لَيتَنِي ما عَرَفتُه"، الذي نَشرتْه مَجَلَّةُ "الثَّقافة" (السنة الخامسة / العدد 60 / 1978 / ص 4 - 19): (وبدأتُ أُعِدُّ العُدَّةَ، وجمعتُ جميعَ كُتُبِي وعبَّأتُها، ولكن مِن الطَّريفِ أنِّي أقصيتُ منها جميعَ كُتُبِ الدُّكتورِ طه، وهبتُها لِصديقٍ لي -رحمه الله-.. فلَم أَكَدْ أَسْتَقِرُّ في مدينة جُدَّة بالحجاز، وهدأتْ نَفْسِي، حتى عُدتُ فاشتريتُها جميعًا مِن مَكاتبِ جُدَّة؛ كان سُخْفًا منِّي، ولكن هكذا كان!) (انتهى).
ثانيًا: حالةُ الشَّكِّ التي تَظهَرُ في أثناءِ كلامِه وهو يَنقِلُ الحوارَ الذي دار بينه وبين والدِه وهو يُحِذِّرُهُ مِن فَشَلِ هجرةِ الحجاز؛ فقد قال في مقالِه "المُتَنَبِّي لَيتَنِي ما عَرَفتُه": (فلمّا وضعتُ الجَوازَ في جيبي واطمأنَّ قلبي، ذهبتُ إلى أبي -رحمه الله- فكاشفتُه بجَلِيَّةِ أمري.. لَم تأخُذْه دهشةُ المُنْكِر، خُيِّلَ إليَّ أنّه كان يَعرِفُ! ظَلِلْتُ أيّامًا بين يديه، يُحاوِرُني ويحاول أن يُقنِعَني بالإقلاعِ عمّا عزمتُ عليه؛ لا هو يَقتَنِعُ بما أَقُولُ وبما أُمَنِّي النَّفْسَ به مُختالًا، ولا أنا أَقتَنِعُ بما يَقُولُ.
وأخيرًا ذكر لي بيتَ النّابغةِ الذي مَرَّ آنفًا:
وَلَا تـَذْهَبْ بِحِـلْمِكَ طَامِيَاتٌ مِنَ الْخُيَلَاءِ لَيْسَ لَهُنَّ بَابُ
وقال: سَتَجِدُ الأبوابَ مُغلقةً دون أَمانِيكَ بِالضَّبَّةِ والمِفْتَاحِ، وسَتَعُودُ إلينا بعد أن تَضِيقَ كما ذهبتَ، فَافْعَلْ ما تَشاءُ. وأَلْقَى حَبْلِي على غَارِبِي، ووافق على سَفَرِي) (انتهى).
ثالثًا: الحَيْرَةُ والتَّرَدُّدُ بين النَّدمِ على عدمِ العملِ بنصيحةِ مَن نَصَحُوه، وعلى إنفاذِ عزمِه بالهجرةِ مِن مِصرَ، والنَّدمِ على رُجُوعِه إلى مِصرَ بعد ثلاثِ سنواتٍ مِن عودتِه إليها.
فقد ظهر نَدمُه على الهجرةِ مِن مِصرَ في ديوانِه "الحجازيّات"، الذي كتبه في أثناءِ إقامتِه بالحجاز؛ إذْ قال فيه:
كنتُ أبنِي ثُمَّ لَم أُلْفِ بِناءً كنتُ أبنِي
ليتني لَم أُنْفِذِ العزمَ، ولكن.. ليتَ أنِّي
ثمّ لَم أَجْنِ سوى الأتعابِ والسُّقْمِ المُبِنِّ
وأمّا نَدمُه على رُجُوعه مِن الحجازِ إلى مِصرَ فجاء في رسالتِه لابنِ خالِه المُحقِّقِ الكبير عبد السَّلام هارون (ت: 1988م) في سنة 1932م؛ فقد قال فيها وهو يَتحسَّرُ على ما فات: (وعلى ما ضَيَّعتُ بِرُجُوعِي إلى بلدٍ أَحَبُّ ما يَكُونُ فيه إلى نَفْسٍ نازحةٍ أَبْغَضُ ما وَجَدتُ إليَّ).
ونَسْطُرُ في المقالِ القادمِ -إن شاء اللهُ- صفحةً جديدةً مِن صفحاتِ حياتِه الحافلةِ بالأحداث.
واللهُ المُستعان.