كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
الفائدة السادسة:
دَلَّ قوله -تعالى-: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) على عظمة منزلة الشكر عند الله -عز وجل-، وتركها من الكفر الذي يريده إبليس لأكثر البشرية؛ كما قال -تعالى- عنه: (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ . قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 15-17).
وقد صَدَّق ظنه فيهم باتباعهم شبهاته المضلة وشهواتهم المغوية، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ: 20)، فدَلَّت هذه الآية الكريمة على أن منزلة الخلة وهي أعظم المنازل والمقامات عند الله، لا بد وأن تتضمن الشكر، ولقد اختص الله -عز وجل- بمنزلة الخلة محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ كما قال -تعالى-: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهِ -تَعَالَى- قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (رواه مسلم)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو القائل، لما قيل له في تورم قدمية وتشققهما: أتفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) (متفق عليه)، وقال -سبحانه- عن نوح -أبي البشر الثاني بعد أبيهم آدم-: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء: 3).
أفبعد ذلك يأتي مَن يخترع في المنازل والمقامات وأعمال القلوب، ويجعل الشكر من منازل العوام؛ مع أنه يتضمن أعظم مراتبه، وهي شكر الله على نعمه الدينية، وهو أعظم من شكره على نعمه الدنيوية، وكلاهما واجبة الشكر.
ويجعلون مقامات الخاصة وخاصة الخاصة، الفناء بعد البقاء، والمحو بعد الصحو، والجمع بعد الفرق، والدهش والسكر والهيمان؛ ولذا يرى من وصل إلى الفناء العالم كله شيئًا واحدًا، فلا يشعر بمنعِم ولا بمنعَم عليه ولا يرى شاكرًا ولا مشكورًا!
بل بعض الزنادقة يرون أن الشاكر هو المعطي والمنعم، كما يرون أن المذكور هو الذاكر، وأن العابد هو المعبود، وأن العبد رب، والرب عبد، وأن المصلي يصلي لذاته، والوجود كله شيء واحد، وهذا المذهب الكفري -وحدة الوجود- كفر يناقض دعوة جميع الرسل والأنبياء، وما عليه الأولياء الصالحون بحق؛ فهؤلاء الزنادقة هم الذين يروِّجون لدعوة مساواة الأديان والدِّين الإبراهيمي الجديد؛ أخزاهم الله، وأحبط أعمالهم.
وأما معنى الشكر؛ فالشكر هو: شهود القلب لنعم الله -تعالى-، ومعرفة أنها منه وحده ومحبته على ذلك، وتعظيمه بها؛ لأنه بدون ذلك لا يكون شاكرًا، والذي لا يحب الله على نعمه كما يحبه على أسمائه وصفاته؛ لا يكون شاكرًا لله.
والشكر أيضًا هو: اعتراف اللسان بهذه النعم، والثناء بها على الله؛ لأنها منه، ثم انقياض الجوارح وخضوعها له -عز وجل-، وأن تصرف هذه النعمة في طاعة الله؛ إذ الإنسان لا يستطيع الحياة بدون نعم الله عليه، فكان الواجب عليه أن يصرفها في طاعته بدلًا من أن يصرِّفها في معصيته، وليتأمل العبد في حاله بدون نعم الله دون رِجْلٍ أو يدٍ، أو فَرْج، أو قلب، أو كُلية، أو أمعاء، أو مخ؛ هل يستطيع هذا الإنسان أن يستمتع بأي لذة؟! هل هناك لذة للطعام دون الجهاز الهضمي، وكذا الشراب دون التذوق، وهل يستمتع باللذة الجنسية دون فرج وسائر الدائرة العصبية والنفسية التي تستلزم الاستمتاع بها؟!
فالإنسان بدون نعمة الله -عز وجل- لا يمكن أن يستمتع بشيء، ولا أن يجد لذة من اللذات؛ أفبعد أن يعطيك الله هذه النعم تستعملها في معصيته -نسأل الله العافية-؟!
لولا الغفلة لما عصى الله عاصٍ، ولما كفر به كافر، ولكن الغفلة هي السبب؛ لأن العاصي غير مستحضر أن هذه النعم من عند الله؛ لذلك نقول: إن الشكر من أعمال القلب واللسان والجوارح، وأهل الإيمان يشكرون الله على هدايتهم للتوحيد والإيمان ونعمة الدِّين، ويشكرونه على المطعم والمشرب والملبس، وصحة البدن وقوته، وغيرها من نعم الدنيا.
وأما عامة الناس؛ فمَن يشكر الله منهم فإنه يشكره على نعم الدنيا؛ أنه أطعمهم وسقاهم، وملكَّهم الأموال، ولو تأملتَ عامة البشر باستثناء المسلمين، وأهل الكتاب؛ لوجدتَ سائر الأمم التي تبلغ أكثر من نصف العالم؛ لا يعرفون الله -عز وجل-، ولا يقرون بوجود إله معبود؛ فضلًا عن أن يشكروه على دنيا أو على دين، ونسأل الله الثبات على الإسلام حتى يتوفانا عليه وهو راضٍ عنا.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.