كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
الفائدة الخامسة:
قوله -تعالى-: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي: لم يكن منهم قط، وهذا فيه دليل على أن إبراهيم فيما ذكره الله عن الكوكب والقمر والشمس، كان مناظرًا لقومه ليقيم عليهم الحجة، ولم يكن ناظرًا باحثًا عن الله -كما قال بعضهم-؛ وإلا لم يصح هذا النفي العام: أنه لم يكن قط من المشركين، وأكَّدها الله بعدها بآيات في قوله -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ودل على ذلك أيضًا: قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) (الأنبياء: 51)؛ فهو من أول نشأته على الرشد؛ لا على الغي والضلال والشرك، وقد برأه الله من ذلك؛ فلو كان عابدًا للكوكب ثم للقمر ثم للشمس، لكان من المشركين والله قد أخبرنا أنه لم يكن منهم.
ويؤكد هذا القول -وهو: أن إبراهيم كان مناظرًا ولم يكن ناظرًا- قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة الطويل عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في تأخره عن مقام الشفاعة للخلق للإراحة من هول الموقف: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ) (متفق عليه)، وفي رواية لمسلم: "وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ: (هَذَا رَبِّي)"؛ فدلَّ ذلك أنه كان يُعَرِّض أي: يقصد السؤال: أهذا ربي؟! ونحو ذلك من المعاني التي يحتملها التعريض، ولم يكن يعتقد ذلك، وذلك لإقامة الحجة عليهم؛ لأن هذه الكواكب كلها والنجوم لا تصلح للعبادة.
الفائدة السادسة:
في هذه الآية وجوب البراءة من أهل الملل المخالفة للتوحيد، وهم الآن كلُّ مَن لم يؤمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ويتبعه، ويتبع القرآن؛ ولو ادعوا التوحيد؛ كما قد يزعم البعض في الفراعنة أنهم كانوا أهل التوحيد، كما قالوا: إن إخناتون كان أول مَن وحَّد، وهو يعبد الشمس، ولو كان يعبدها وحدها فلا يكون موحِّدًا، بل هذا هو الشرك بعينه؛ لأن من عبد غير الله فقد أشرك، وإنما الموحد من أفرد الله سبحانه بالربوبية والألوهية والعبادة.
وكذا يزعم البعض: أن اليهود والنصارى -المعاصرين والماضين- هم مؤمنون؛ لأنهم أهل كتاب! وهذا قول مخالف لصريح القرآن؛ قال الله -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-33).
فهذه الآيات نصوص قطعية الثبوت والدلالة على أن اليهود والنصارى من الكافرين المشركين، وتدل على كراهتهم للإسلام ورغبتهم في محوه، وإهلاك أهله.
وما يفعله اليهود اليوم في غزة من إبادة جماعية، وقتل النساء والأطفال والرجال العزل، وتدمير كل شيء، وتصريحهم بإرادتهم ونيتهم في هدم المسجد الأقصى، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه؛ كل هذا يدل كل عاقل على شدة عداوتهم وكفرهم بالإسلام، وهذا يهدم فكرة الدِّين الإبراهيمي الجديد مِن أصلها؛ فلو كانوا يعتقدون أن المسلمين مؤمنون مثلهم بدين واحد؛ فكيف يقتلونهم هذا القتل الفظيع؟! وكيف يتعاملون بهذه العصبية الإجرامية ضد الإسلام وأهله؟! وكيف يؤيدهم في ذلك -تأييدًا تامًّا- الغرب؛ سواء كانوا نصارى أو ملاحدة؟!
فكما هَدَمت فكرةَ الدين الإبراهيمي الجديد نصوصُ القرآن والسُّنة القاطعة؛ فكذلك يهدمها واقع اليهود ومَن والاهم من النصارى والملاحدة والمشركين، وإنما يريدون بنشر فكرة الدين الإبراهيمي -المزعوم!- خداع المسلمين وحدهم، وصرفهم عن دينهم، ويأبى الله ذلك والمؤمنون، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء: 227).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.