كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تكلمنا في المقالات السابقة عن الدعاوى المطالِبة بتقييد سن الزواج استنادًا على قاعدة تقوم على حق الحاكم في تقييد المباح للمصلحة العامة، وتكلمنا عن ضوابط ذلك، وفي هذا المقال نتكلم عن أمثلة لقيام الحاكم العالم العادل بتقييد المباح.
فمن ذلك:
ما فعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من منعه كبار الصحابة من الزواج من نساء أهل الكتاب؛ خشية الاقتداء بهم، وانصراف الناس عن المُسْلِمات بالزواج من نساء أهل الكتاب؛ لا سيما أن فيهن خلابة، فهذا لا يعني أن عمر -رضي الله عنه- حَرَّم نكاح نساء أهل الكتاب، أو منع منه جنس المسلمين، وقد علل أمره لحذيفة -رضي الله عنه- بطلاق مَن تزوجها منهم بخشية نكاح المومسات منهن، وهذا لا يليق في حقهم، ولكنه -رضي الله عنه- لم يحرم الأصل، أو يمنع منه عموم المسلمين.
5- أن يكون تقييد المباح للضرورة، أو حاجة تنزَّل منزلة الضرورة؛ ومثاله:
- نهى النبي عن ادخار الأضاحي فوق ثلاث، ثم عاد الحكم للإباحة؛ لضرورة وقتها، فقد أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عابس عن أبيه، قال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: "أَنَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؟ قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ"(متفق عليه).
لذلك فمسألة مثل مسألة تعدد الزوجات، وهو أمر مشروع بنص الكتاب والسنة والإجماع إذا قيل فيه: إن تعدد الزوجات مباح، وإن لولي الأمر أن يقيد هذا المباح، فله أن يصدر قانونًا يمنع التعدد بصفة عامة؛ فهذا لا يُقبل لمعارضته لمعظم الضوابط السابقة، وإن زُعم أن مِن وراء هذا مصلحة عامة أو نحو ذلك -مع أن الواقع يقول إنها مصلحة متوهمة، بل محض مضرة على المجتمع في ظل زيادة نسبة النساء عن الرجال، وزيادة نسبة العنوسة والأرامل والمطلقات-، فيعد هذا من التشريع الذي لا ينبغي له ولا يقبل منه، بعكس ما لو قُدِّر أنه حصل تناقص مثلًا في عدد النساء بالنسبة للرجال بحيث لم يصبح لكل رجل زوجة -مع أن هذا غير وارد؛ لأن النساء تكثر والرجال يقلون، وإنما هو من قبيل الشرح والتوضيح-، فهنا قد تعارض أمران: الحكم بإباحة التعدد، وحق كل رجل في أن تكون له زوجة حتى لا تنتشر الفواحش ويعم الفساد، فلو أصدر ولي الأمر قرارًا بمنع التعدد مؤقتًا، وربطه بتلك الحالة الطارئة؛ لم يحمل هذا على التشريع الدائم المخالف لشرع الله -تعالى الممنوع منه كل أحد، بل حمل على التقييد الطارئ المرتبط بالظرف أو الحالة التي ألجأت إليه.
وأيضًا إذا لم يكن لولي الأمر تقييد الزواج بعدد، فليس له كذلك أيضًا تقييده بصفة أو شرط لم يشرعه الله، كأن يمنع مثلًا زواج المرأة البالغة إلا في سن معين، أو يمنع الحاصلة مثلًا على مؤهل جامعي برجل أدنى منها في المؤهل الدراسي أو العكس إن رضيت هي ورضى وليها، وهكذا، إلخ
وكذلك ففي مقابل الزواج الطلاق؛ ومع أن الطلاق تترتب عليه أمور كثيرة غير مرغوب فيها؛ إلا أن الشرع أباحه؛ لما في حصوله من دفع ضرر أكبر، فالطلاق مباح بالنص، فلا يملك ولي الأمر أن يقيده بصفة مخصوصة كالتوثيق له فقط مع عدم الاعتراف بالطلاق الشفهي أو منعه منعًا عامًّا، فإن هذا القيد أو المنع تشريع لا يقبل منه ولا من غيره، وإن زعم أن من وراء ذلك مصلحة؛ إذ لا مصلحة فيما يخالف المنصوص عليه، والذي شرع هذا الحكم وأباحه هو الله الذي هو أعلم من كل أحد بمصالح عباده وأعلم بالمضار الواقعة عليهم، وصدق الله في إخباره عن نفسه: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14).
وفي الختام: لا بد أن يعي الجميع أن الأسرة المسلمة هي صمام الأمان للمجتمعات المسلمة، والمحافظة على تماسكها لا يمكن أن يحدث إلا بتفعيل منظومة الأحكام والتشريعات الإسلامية التي حفظت الحقوق وبيَّنت الواجبات للرجل والمرأة على السواء بما يتوافق مع طبائعهم التي خلقها الله فيهم؛ لا أن يسعى البعض للتفكير بعقل الغرب والتكلم بلسانه، والسير في خطى ثقافته التي تسببت في انهيار مفهوم الأسرة عندهم.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.