كتبه/ عبد الرحمن راضي العماري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
التربية وتقويم الأبناء من أجلِّ المهمات، وأكرم القربات، والحفاظ عليهم من أوجب الواجبات كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ"، وقد نبهنا الشرع على خطورة التفريط في تربية الأبناء، وضرورة القيام بحسن تربيتهم، وأداء حقوقهم، ومراعاة مصالحهم الدينية والدنيوية، ففي الحديث: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
وإن المتعارَف عليه في التربية أن نرى الآباء حريصين على أبنائهم، وعلى حفظهم مما يضرهم ويضلهم؛ هذا في البيوت السوية التي تكونت من والدين يقدرون المسئولية التي ألقيت على عاتقهما، والمهمة التي سيحاسبان عليها، وهي رعاية وتربية الأبناء حتى يصلوا إلى برِّ الأمان في الدنيا والآخرة.
لكن قد يسيء كثيرٌ من الآباء الفهم والتطبيق لقضية الحماية والرعاية؛ خاصة في عصر الانفتاح والإغراءات، وتغول المناهج والمؤسسات في كل ما يحيط بنا وبأبنائنا، فربما ينعكس هذا التخوف على الوالدين فيقتصروا في التعامل مع أبنائهم على سياسة المنع المطلق، والصرامة القاسية، أو القمع كما سيراه الأبناء.
فنجد بدون تقييد أو ترشيد: (منع الأجهزة الذكية - منع نزول الشارع - منع الخروج مع الأصدقاء - منع المصروف الشخصي - منع حرية الاختيار في التسوق وشراء الملابس - المنع من المزاح والنشاط الحركي - المنع من اقتراح الأفكار - المنع من اختيار الطعام المفضل - المنع من النوم في غير مواعيد النوم المعتادة - المنع من الانتقاد).
وهذه سياسة أو طريقة قاصرة قائمة على ساق الترهيب والعقاب، والحماية الزائدة المفرطة، والتي غالبًا ما تؤدي لنتائج عكس المقصود منها، وتؤدي بعد مرور وقت من التزامها إلى أمراض نفسية واضطراب سلوكي لدى الأبناء حتى يتحول كثيرٌ منهم إلى شخصيات عاجزة عن التصرف فيما يقابلها، خائفة من كل جديد ولو كان نافعًا أو شخصيات شديدة الانحراف؛ نظرًا للانفجار الذي يحصل منهم بعد الكبت والضغط والقمع مع كراهية المانع (الأب أو الأم) وعدم الاستجابة له، أو الثقة في توجيهاته والرغبة في تحصيل الممنوعات، والوصول إليها بطرق مختلفة وغير ظاهرة للوالدين، وبالتالي الوقوع في المحذورات بعيدًا عن أعين المانعين.
والصحيح في هذه الأمور خاصة فيما يتعلق بالهواتف والأصدقاء هو الترشيد والتقنين، والتوجيه للتعامل الصحيح، وغرس قِيَم المراقبة لله، وخشيته في السر والعلن، وعدم التعجل والانبهار بكل غريب، ومراعاة الحلال والحرام، وتقديم ما يرضي الله عز وجل على رغبات النفس والشهوات والإغراءات، بل والتشجيع على الاستعمال الرشيد والحرية المنضبطة، وهذا يحتاج لجهدٍ في المتابعة، والتصويب والتدريب، وتنويع وسائل التوجيه، والتغافل والحلم، والتربية على التفريق بين الثوابت والمتغيرات، ومراعاة ذلك.
ثم إن الأخطاء التي تترتب على الانفتاح المنضبط والحرية الراشدية لا سبيل لتلافيها، وعدم وقوعها بالكلية، لكن قد يكون الوقوع في الأخطاء أمر يترتب فوائد تربوية، وتكون خيرًا للابن من المثالية المصطنعة المجبر عليها.
وبهذه النظرة المتوازنة التي تجمع بين الترغيب والترهيب، والضبط والتدريب، والحزم والحلم تستقيم شخصية الابن، وتتأهل للتعامل مع تحديات الحياة، وتكتسب القدرة على الاختيار الصحيح والنقد الرشيد، والتمييز بين النافع والضار، والاستفادة من الوسائل والتقنيات الحديثة، والتأهل للقيادة، وتحمل أعباء الحياة والتعامل مع البشر وفهم طبائعهم ومناهجهم؛ مما يعني القدرة على التعامل مع مختلف الطبائع بالطرق الصحيحة، ومواجهة الأخطار.
وبالله التوفيق.