كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تكلمنا في المرة الماضية عن بعض الآلام التي تحملها السيد المسيح كغيره من أولي العزم من الأنبياء، وقلنا: إن أولي العزم من الرسل نالهم من الأذى والشدائد والتعب والحزن ما يتناسب مع عظم المسئولية الملقاة على عواتقهم.
ثم أشرت -في المقالة السابقة- إلى نقاط ثلاث مَثَّلت أكبر الشدائد التي تحملها المسيح -عليه السلام-:
أولها: ما عاناه المسيح -عليه السلام- من محاولات قتله من اليهود قتلة الأنبياء، قال -تعالى-: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) (النساء:157).
فقد شُبِّه لهم ذلك الذي دل عليه فقتلوه وهم يظنونه المسيح.. ولم يمكـِّنهم الله -تعالى- من نبيه.
وكذلك فصلنا في النقطة التالية: وهي اختلاف الناس فيه بين غالٍ وجافٍ، فمنهم من آذاه بتكذيبه وإيذائه، ومنهم من أساء إليه بنسبة الألوهية إليه، وتلك نقطة لم تحدث لنبي من قبله؛ فقد كانوا يعانون العنت من مخالفيهم فقط، وقد رددنا على شبهاتهم في المقالة السابقة.
ثم تحدثت أخيرًا عن تحريفهم لكتاب الله -تعالى- الإنجيل، حتى صارت التناقضات فيه والاختلافات بين نسخه محطّ سخرية الصغير والكبير، وفصَّلتُ ذلك -بحمد الله-.
ونستطرد في محاورتنا فنقول:
4- من تلك الآلام التي ينوء بها كاهل النصرانية: مخالفتهم لتفاصيل الشريعة وابتداعهم فيها، ثم كذلك قيام مُدَّعُو المسيحية بفرض رؤاهم وبدعهم وعقائدهم بالقوة، وإلحاق الأذى بالآخرين سواءً باسم المسيح، أو بدوافع أخرى، وفي كلٍ مخالفة لأوامره -عليه السلام-.
ونفصل فنقول: إن النصارى مخالفون للمسيح في كل فروع دينهم –أيضًا- في الطهارة، والصلاة، والصوم، وأكل الخنزير، وتعليق الصليب، فهم مخالفون للمسيح في جميعها، وأكثر ذلك بشهادتهم وإقرارهم، ولكن يحيلون على البطاركة والأساقفة.
فإن المسيح -صلوات الله وسلامه عليه- كان يتديـَّن بالطهارة، ويغتسل من الجنابة، ويوجب غسل الحائض، وطوائف النصارى عندهم أن ذلك كله غير واجب، وأن الإنسان تصيبه الجنابة ويبول ويتغوط، ولا يمس ماءً ولا يستجمر، ويصلي كذلك وصلاته صحيحة تامة، ولو تغوط وبال وهو يصلي؛ لم يضره!!
يقول ابن القيم في "هداية الحيارى": "ويقولون: إن الصلاة بالجنابة والبول والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة؛ لأنها –حينئذ- أبعد من صلاة المسلمين واليهود، والقرب إلى مخالفة الأمتين. ويستفتح الصلاة بالتصليب بين عينيه، وهذه الصلاة رب العالمين بريء منها، وكذلك المسيح وسائر النبيين؛ فإن هذه بالاستهزاء أشبه منها بالعبادة، وحاش المسيح أن تكون هذه صلاته أو صلاة أحد من الحواريين.
كان المسيح يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنو إسرائيل يقرءونه في صلاتهم من التوراة والزبور، وطوائف النصارى إنما يقرءون في صلاتهم كلامًا قد لحنه لهم الذين يتقدمون ويصلون بهم يجري مجرى النوح والأغاني، فيقولون: هذا قـُدَّاس فلان، وهذا قـُدَّاس فلان، ينسبونه إلى الذين وضعوه، وهم يصلون إلى الشرق، وما صلى المسيح إلى الشرق قط، وما صلى إلى أن رفعه الله إلا إلى بيت المقدس، وهي قبلة داود والأنبياء قبله، وقبلة بني إسرائيل.
والمسيح اختتن وأوجب الختان، كما أوجبه موسى وهارون والأنبياء قبل المسيح، والمسيح حرم الخنزير، ولعن آكله، وبالغ في ذمه، والنصارى تقر بذلك، ولقي الله ولم يطعم من لحمه بوزن شعيرة، والنصارى تتقرب إليه بأكله. والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط، ولا صامه في عمره مرة واحدة، ولا أحد من أصحابه، ولا اتخذ الأحد عيدًا قط، والنصارى تقر أنه رقى مريم المجدلية، فأخرج منها سبع شياطين، وأن الشياطين قالت له: أين نأوي؟ فقال لها: "اسلكي هذه الدابة النجسة –يعني: الخنزير-". فهذه حكاية النصارى عنه، وهم يزعمون أن الخنزير من أطهر الدواب وأجملها". اهـ.
5- ومن آلام المسيح -أيضًا-: ما فعل أتباعه من بعده سواء بقسوة بعضهم على بعض، أو بظلمهم للآخرين من غيرهم. وهذه إشكالية كبرى تناقض تعاليم المسيح -عليه السلام- الذي يدعو إلى الرحمة والتسامح والمودة بين الناس، ومن تلك المذابح نقتبس شيئًا فنقول:
مجازر حدثت باسم الدين:
يقول المؤرخ "بريفولت": "إن عدد من قتلتهم المسيحية في انتشارها في أوربا يتراوح بين 7-15 مليونًا". ويلفت النظر إلى أن العدد هائل بالنسبة لعدد سكان أوربا حينذاك.
ولما تعددت الفرق المسيحية؛ استباحت كل من هذه الفرق الأخرى، وساموا أتباعها أشد العذاب، فعندما رفض أقباط مصر قرار مجمع "خليقدونية"؛ عذبهم الرومان في الكنائس، واستمرت المعاناة سنين طويلة، وأُحرق أخو الأسقف الأكبر "بنيامين" حيًّا، ثم رموه في البحر. فيما بقي الأسقف متواريًا لمدة سبع سنين، ولم يظهر إلا بعد استيلاء المسلمين على مصر ورحيل الرومان عنها.
وقريبًا من ذلك العنف كان في "فرنسا"، فقد فرض الملك "شارلمان" المسيحية بحد السيف على السكسون، وأباد الملك "كنوت" غير المسيحيين في "الدانمارك"، ومثله فعل الملك "أولاف" (995م) في "النرويج"، وجماعة من إخوان السيف في" بروسيا".
ويقول "غوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب": "أكرهت مصر على انتحال النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي".
وكتب "ميخائيل" بطريرك أنطاكية: "إن رب الانتقام استقدم من المناطق الجنوبية أبناء إسماعيل؛ لينقذنا بواسطتهم من أيدي الرومانيين، ومن غضبهم وحفيظتهم علينا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى سادت الطمأنينة بيننا". وقد قـُتل من القبط في الإسكندرية وحدها مائتا ألف قبطي.
وإليك ما ذكره المؤرخ "جيبون" عن مذبحة "القدس" التي رافقت دخول المسيحيين: "إن الصليبيين خـُدَّام الرب يوم استولوا على "بيت المقدس" في 15/7/1099م؛ أرادوا أن يكرموا الرب بذبح سبعين ألف مسلم، ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء.. حطموا رءوس الصبيان على الجدران، وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل، وشووا الرجال والنساء بالنار، وكان للمسلمين نصيب كبير من الاضطهاد الديني خاصة في "الأندلس" التي عانى مسلموها من محاكم التفتيش، حتى فر من استطاع الفرار إلى "المغرب".
ويكفي أن ننقل ما سطره "غوستاف لوبون" في كتابه: "حضارة العرب" حيث يقول عن محاكم التفتيش: "يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائصنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين، فلقد عمدوهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع، واقترح القس "بيلدا": قطع رءوس كل العرب دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بما في ذلك النساء والأطفال، وهكذا تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين عربي".
وكان الراهب "بيلدا" قد قتل في قافلة واحدة للمهاجرين قرابة مائة ألف في كمائن نصبها مع أتباعه، وكان "بيلدا" قد طالب بقتل جميع العرب في "أسبانيا" بما فيهم المتنصرين، وحجته أن من المستحيل التفريق بين الصادقين والكاذبين، فرأى أن يقتلوا جميعًا بحد السيف، ثم يحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى، فيدخل النار من لم يكن صادقًا منهم.
وقريبًا من هذه المذابح ما جرى بين المذاهب النصرانية، فقد أقام الكاثوليك مذابح كبيرة للبروتستانت منها: مذبحة "باريس" (1572م)، وقتل فيها وأثرها ألوف عدة، وسط احتفاء البابا ومباركته، ومثله صنع البروتستانت بالكاثوليك في عهد الملكة "أليصابات" حيث أصدرت بحقهم قوانين جائرة، وأعدمت 104من قسس الكاثوليك، ومات تسعون آخرون بالسجن، وهدمت كنائس الكاثوليك، وأخذت أموالهم.
وكانت الملكة تقول: "بأن أرواح الكفرة سوف تحرق في جهنم أبدًا، فليس هناك أكثر شرعية من تقليد الانتقام الإلهي بإحراقهم على الأرض".
وعليه؛ نستطيع القول بأن المسيحية يرتبط تاريخها بالسيف والقهر الذي طال حتى أتباع المسيحية، غير أن الاضطهاد المسيحي يتميز بقسوة ووحشية طالت النساء والأطفال ودور العبادة.
وقد جرت هذه الفظائع على يد الأباطرة بمباركة الكنسية ورجالاتها، وكانت الكنيسة قد سنت القوانين التي تدفع لمثل هذه المظالم وتأمر بقتل المخالفين، قال البابا "اينوشنسيوس الثالث" (ت1216م):" إن هذه القصاصات على الأراتقة "الهراقطة" نحن نأمر به كل الملوك والحكام، ونلزمهم إياه تحت القصاصات الكنائسية".
فتلك -إذن- آلام المسيح الحقيقية أن يساء إليه وإلى دعوته، وأن يتخذوه إلهًا من دون الله -تعالى-، وأن يتخذ دينه مطية؛ لإيذاء البشر واضطهادهم وقتلهم.