كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن آلامًا عظمى تحملها السيد المسيح، كغيره من أولي العزم من الأنبياء، فمن كان يحمل هم أمة تكون مهامه كبيرة وشاقة، وتكون آلامه –أيضًا- كبيرة وشاقة؛ وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
وبسبب ما يلاقيه أولئك الأكابر من جهل وعنت وإساءة تكون معاناتهم وبلاؤهم، وأول ما يعانيه الأنبياء هو: إصرارهم على دعوتهم، مع غفلة الناس عنهم، وحماقتهم في الرفض والتجاهل والكفر، ثم تتوالى المعاناة وتتنوع بحسب طبائع الناس وتنوع الأحداث.
فالحق عند الأنبياء واضح أبلج، ومصائر الكافرين والمكذبين لا تغيب عن أذهانهم، فكأنهم ينظرون إلى أهل التصديق، وقد نعموا في الجنة وما فيها من خير، وكأنهم يأسون لأهل الكفر وهم يعذبون في النار، ويستغيثون ويندمون ويعضون أصابعهم قائلين: (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا) (الأحزاب:66).
فتمتلئ قلوبهم غمًّا وحسرة على غفلة البشر عن ذلك المصير، وعن شدة الحساب، وعظم السؤال، وثقل المسئولية.
وقد عبر القرآن عن تلك الحالة النفسية للأنبياء، فقال عن محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف:6)، وقال -تعالى-: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:3).
وكذا بلغت معاناة موسى -عليه السلام- من عنت بني إسرائيل -من متبعيه فضلاً عن مخالفيه- فقال: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:25)، يريد بذلك: المتعنتين من قومه الذين أسلموا معه، لذا؛ فقد كان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يقتدي به في صبره على من معه، ففي "الصحيحين" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: (قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرة مالاً، فقال بعض الأعراب من المسلمين: "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله"، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحمرت وجنتاه ثم قال : (يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) (رواه البخاري).
أما المسيح -عليه السلام- فإنه –أيضًا- عانى من ذلك التكذيب والأذى، قال -تعالى-: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:52)، ومع ذلك لم يسلم من المعاناة حتى من متبعيه الذين طالبوه –أحيانًا- بما يشف عن مدى العنت الذي عاناه -عليه السلام-، قال -تعالى-: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة:112).
سبحان الله (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ)؟، وكأنهم لا يؤمنون بالله -تعالى- ولا بقدرته، بل ويسيئون الأدب مع النبي بنسبة الرب إليه، فلم يقولوا: ربنا، بل قالوا: ربك، وكأنهم لا ينتمون إليه... وكل ذلك يبرز فضيلة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين صبروا، وثبتوا، وجاهدوا.
وأنا هنا أفصل فيما يتعلق بمعاناة المسيح -عليه السلام-؛ لأن بعض الناس يغريه أن يشاهد فيلمًا أو يقرأ قصة عن آلام المسيح، وقد ينال ذلك إعجاب بعض الناس، لاسيما وهو يحيي العداء لليهود، مما يدفع الناس إلى التعاطف مع الفكرة، ويغفلوا عن معانٍ أخرى تناقض عقيدتنا تتسرب من خلال الفيلم، فأقول:
1- عانى المسيح -عليه السلام- من محاولات قتله من اليهود قتلة الأنبياء وقتلة أهل الخير -قديمًا وحديثًا-، قال -تعالى-: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة:61).
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية).
وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلاَثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلاً مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-) (.
فقد قتلوا أنبياء كثر منهم: زكريا ويحيى -عليهما السلام، وتمالئوا على قتل عيسى، فباءوا بذنب ذلك، حتى وإن لم يمكنهم الله -تعالى- من تمام العمل؛ لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، وكذلك تمالئوا على قتل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة، فما كان الله -تعالى- ليسلطهم على أنبياء من أولي العزم.
قال -تعالى-: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) (النساء:157).
فقد شُبه لهم ذلك الذي دل عليه، فقتلوه وهم يظنونه المسيح، ولم يمكنهم الله -تعالى- من نبيه.
وتلك قضية تبين مدى صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلو كان دعيًّا مدعيًا فقد كان يسيرًا عليه -لما كان بينه وبين اليهود من حروب- أن يدعم تلك الفكرة فكرة الصلب، فلن يضر دعوته شيء أن تلصق باليهود تهمة قتله، بل يساعد ذلك على ضم معادين جدد لليهود وهم النصارى، ولن يضير ذلك التوحيد.
لكن الرسول مبلغ عن ربه ويقرر الحقائق... مع ما يعلمه الله -تعالى- من شر تلك العقيدة التي يضل بها الشيطان أتباع الصليب بالنفخ فيها بشبهاته وأذاه.
2- من آلام المسيح كذلك: اختلاف الناس فيه بين غالٍ وجافٍ، فمنهم: من آذاه بتكذيبه وإيذائه، ومنهم: من أساء إليه بنسبة الألوهية إليه، فخرجوا به عن طبيعته البشرية، وغالوا فيه.
وعقيدتنا: أنه نبي كغيره من الأنبياء، أكرمه الله بمعجزات، فإن قالوا: "جاء من غير أب"؛ قلنا: "وكذلك آدم جاء من غير أب ولا أم، وهو أول البشر؛ فهو أحق بالبنوة المزعومة من غيره".
ومن العجيب أنهم يدعون أنه جاء؛ ليخلص البشر من معصية آدم، ثم يبرءون اليهود الآن من دم المسيح؛ لأنه كان ينفذ إرادة الرب سبحان الله... ألم يكن آدم -أيضًا- ينفذ إرادة الرب عندما خرج من الجنة للأرض؟ ألم يتب الله عليه؛ فقربه، ولعن الشيطان، وإلا لتساوى هو والشيطان في الطرد من الرحمة؟!!
إن لم يكن الله -تعالى- عفا عنه بعد توبته فما السبب؟! أليس الله يقبل التوبة عن عباده... وإن كان عفا عنه فما الحاجة –إذن- لوجود مخلص آخر؟!
ثم ألم يكن الأنبياء من قبل عيسى يعلمون بوجوده، فلمَ لمْ يخبروا الناس عنه، ودعوهم إلى التوحيد فقط، أكان يسع الناس من قبل نزول عيسى أن يعبدوا إلهًا واحدًا، فلئن كان هذا يسع نوحًا وإبراهيم وموسى وأتباعهم؛ فإنه –كذلك- يسع الناس من بعدهم، وإلا لاحتاجوا إلى مخلص آخر؛ ليكفر تلك السيئة بعدما يكفر عنهم المسيح سيئة آدم، فإنه ينبغي عليه أن يعاود النزول؛ ليفدي الناس من معاصي غيره من الأنبياء، فيصلب فيستجير ويبكي كما فعل أول مرة.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "جعله النصارى مصفعة اليهود ومصلوبهم الذي يسخرون منه ويهزءون به، ثم عقدوا له تاجًا من الشوك بدل تاج الملك، وساقوه في حبل إلى خشبة الصلب، يصفقون حوله ويرقصون، فلا بتلك الأنفة له من عبودية الله، ولا بهذه النسبة له إلى أعظم الذل والضيق والقهر، وكذلك أنفوا أن يكون للبطريك والراهب زوجة أو ولد، وجعلوا لله رب العالمين الولد، وكذلك أنفوا أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ويطيعوا عبده ورسوله، ثم رضوا بعبادة الصليب، والصور المصنوعة بالأيدي في الحيطان، وطاعة كل من يحرم عليهم ما شاء، ويحلل لهم ما شاء، ويشرع لهم من الدين ما شاء من تلقاء نفسه... ".
فأي آلام تؤذي المسيح أكثر من هذا الغثاء؟!
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه في الحديث الصحيح أنه قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتِمَنِي، وَيُكَذِّبُنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، أَمَّا شَتْمُهُ؛ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ؛ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي) (رواه البخاري).
فما ظن هذه الطائفة برب العالمين أن يفعله بهم إذا لقوه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ويسأل المسيح على رءوس الأشهاد -وهم يسمعون-: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) فيقول المسيح مكذبًا لهم ومتبرئًا منهم: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ . مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة:116-117).
3- تحريفهم لكتاب الله -تعالى- الإنجيل حتى صارت التناقضات فيه والاختلافات بين نسخه محط سخرية الصغير والكبير، وكيف يكون في الإنجيل الذي أنزل على المسيح قصة صلبه، وما جرى له، وأنه أصابه كذا وكذا، وصلب يوم كذا وكذا، وأنه قام من القبر بعد ثلاث، وغير ذلك مما هو من كلام النصارى، وغايته أن يكون من كلام الحواريين، خلطوه بالإنجيل، وسموا الجميع: إنجيلاً، وكذلك كانت الأناجيل عندهم أربعة يخالف بعضها بعضًا، ومن بهتهم وكذبهم: قولهم: أن التوراة التي بأيديهم وأيدي اليهود والسامرة سواء، والنصارى مجمعون على أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة، ولا يعرفون الإنجيل غير هذا.
فإنجيل ألفه متى تلميذ المسيح بعد تسع سنين من رفع المسيح، وكتب بالعبرانية في بلد يهود بالشام، وإنجيل ألفه مرقس الهاروني تلميذ شمعون بعد ثلاث وعشرين سنة من رفع المسيح، وكتبه باليونانية في بلاد "أنطاكية" من بلاد الروم، ويقولون: إن شمعون المذكور هو من ألفه ثم محى اسمه من أوله، ونسب إلى تلميذه مرقس، وإنجيل ألفه لوقا الطبيب الإنطاكي تلميذ شمعون بعد تأليف مرقس، وإنجيل ألفه يوحنا تلميذ المسيح بعد ما رفع المسيح ببضع وستين سنة كتبه باليونانية.
وكل واحد من هذه الأربعة يسمونه: "الإنجيل"، وبينها من التفاوت والزيادة والنقصان ما يعلمه الواقف عليها، فدعوى الكاذب الباهت أن نُسَخ التوراة والإنجيل متفقة شرقًا وغربًا، بُعدًا وقـُربًا من أعظم الفرية، وقد وبَّخهم الله -سبحانه- وبكَّتهم على لسان رسوله بالتحريف والكتمان والإخفاء، فقال -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (آل عمران:71).