كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمدار كلمة الأدب لغة على الجمع والندب والترويض والتلقين والمجازاة.
فيقال: "أدَّب القومَ" أي: جمعهم على الأدب وندبهم إليه.
ويقال: "أدَّبه" أي: لقَّنه فنون الأدب، وكذلك جازاه على إساءته.
ويقال: "تأدَّب بآداب القرآن والسنة" أي روَّض نفسه للالتزام بهما، وصار واقعاً حياً في حياته.
- والأدب هو: رياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي. اهـ بتصرف من المعجم الوجيز.
نستنتج مما سبق أن الأدب اصطلاحاً يحتاج إلى هذه الأصول اللغوية، فلابد من علم ثم ممارسة ورياضة وتطبيق ومحاسبة لنفسك، ولمن يلزمك تأديبه حتى تصير الآداب كما قالت عائشة -رضي الله عنها- في وصف خُلُق النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كان خلقه القرآن) رواه مسلم.
والأدب -أخي الحبيب- هو الدين كله كما يقول ابن القيم -رحمه الله- فمن التزم به فهو المؤدب على الحقيقة.
- والأدب أنواع ثلاثة، أدب مع الله -تعالى-، وأدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأدب مع الخلق.
أما الأدب مع الله -تعالى- فهو أوله وأكمله وأساس ما وراءه، لأن الله -تعالى- هو الآمر بها.
وأصل كل خير في الأدب مع الله -تعالى-، ومنه تتفجر أنواع العبادات الباطنة والظاهرة هو: أن تقدر الله -تعالى- حق قدره, بحيث يمتلئ القلب من محبته ومخافته ومهابته ورجائه، فيفيض على سائر الأركان، فتتسابق في مرضاته والعمل بطاعته، واجتناب مساخطه.
وطريق ذلك أن يشهد القلب بعين بصيرته اللهَ -تعالى- بعظمته وجبروته وكبريائه، فهو -عز وجل-، فهو الكبير الذي لا أكبر منه، والعظيم الذي لا أعظم منه، والجبار الذي جبر عباده على ما يريد، والذي يجبر كسر كل كسير، والمتعالي عن الأضداد والأنداد والشركاء والوزراء، والصاحبة والولد، وجميع صفات المخلوقين العاجزين.
- والعليّ ذاتاً فلا تشبه ذاته ذوات المخلوقين: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11)، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم:65).
- والعلي شأناً: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29)
وشأنه -تعالى- واضح بيِّن لكل ذي عينين من أنواع التدبير والتصرفات.
- والعليّ قهراً: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:18).
فالكل عبيده، وتحت سلطان قهره، لا خروج لأحد عن قضائه وأمره الكوني.
- وهو -تعالى- القوي المتين، شديد الأخذ والبأس، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يوصل انتقامه وبأسه لمن عصاه وخالف أمره، ولا يخاف عاقبة ذلك.
قال -تعالى-: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) (الشمس: 14،15)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد:11)
- ومن قوته -تعالى- أنه يصل إلى ما يريد، فما وعد به فهو حق أي: متحقق وجوده، فأيقِنَنَّ بذلك، قال -تعالى-: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ).
- ومِن وعده: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (المائدة:9)
- ومن عظمته وقوته وفضله أنه يوصل فضله ورحمته لمن أطاعه واتقاه، قال -تعالى-: (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس:107).
- ومن عظمته وكبريائه وجبروته أن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، قال -تعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67).
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ....) ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب -تعالى- نفسه (أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر حتى قلنا: لَيَخرَّن به) رواه أحمد بسند صحيح.
يا لَهُ من تعظيم وتمجيد رجف منه المنبر! فنسأل الله -تعالى- أن يَمُن علينا من هذا الخير.
قال -تعالى- عن نوح -عليه السلام- مخاطباً قومه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) (نوح:13).
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: " لا تعظمون الله حق عظمته" ثم ذكَّرهم بعد ذلك بنعم الله عليهم لعلهم يتقون.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ينبههم نوح -عليه السلام- على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع العظيمة السماوية والأرضية، فهو الخالق العظيم الرزاق، جعل السماء بناء، والأرض مهداً، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يُعبَد ويوحَّد، ولا يشرك به أحد، لأنه لا نظير له ولا شريك ولا ند ولا كفء ولا صاحبة ولا ولد ولا وزير ولا مشير، بل هو العلي الكبير" اهـ
- ويشهد القلب كذلك قيام الله -تعالى- على كل نفس بما تحتاجه وينفعها من رزق وسكن وصاحب، وكل ذلك بالعدل والحكمة.
- ويشهد القلب أيضاً سعة رحمته وفضله ومعالم ذلك في خلقه.
أخي الحبيب:
إن هذا التعظيم والتقدير الحق لله -تعالى- يُولِّد في النفس مراقبة الله -تعالى- في الأقوال والفعال، والحركات والسكنات، والخلوات والجلوات، قال -تعالى-: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء:219)
وقال -تعالى-: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس:61).
- كما أنه يولِّد في النفس خوفاً منه -عز وجل- ومهابة له، وفراراً إليه بطاعته وترك معصيته، قال -تعالى-: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات:50)
واللهج بذكره على الدوام.
- وأخيراً -أخي الحبيب- نذكّر بقول ابن القيم -رحمه الله-: " الأدب مع الله -تعالى- هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهراً وباطناً، ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه، وما يحبه وما يكرهه، ونفس مستعدة، قابلة، ليِّنة، متهيئة لقبول الحق علماً وعملاً وحالاً. والله المستعان" اهـ مدارج السالكين 2/358.
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أهل أدبه.