كتبه/ خالد فوزي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تحدثتُ في المقالة السابقة عن حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ) (رواه مسلم).
وتبيَّن معنا أن الأطوار الثلاثة: النطفة والعلقة والمضغة تكون في الأربعين الأولى؛ لحديث حذيفة بن أسيد في -صحيح مسلم- قال: يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ... ).
وأتناول في هذه المقالة: نفخ الروح.
فالمقطوع به أن نفخ الروح يكون بعد ذلك بعد اكتمال دور المضغة؛ إلا أنه لم يَرد تحديد وقته بدقةٍ في النصوص، لكنه في الجملة بعد التسوية؛ لقوله -تعالى-: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)، وقوله: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك) (الانفطار:7)، وعلم الأجنة يقرر أنه غالبًا في نهاية الأسبوع الثامن تكون جميع الأجهزة الرئيسة قد تخلقت، وتميزت الصورة الإنسانية وسوي خلق الإنسان، كما تتميز الأعضاء التناسلية في الأسبوع الثاني عشر أو قريب مِن ذلك، ونفخ الروح ممكن في هذه الأوقات.
لكن ما علامات نفح الروح؟!
إذا اعتبرنا نبض القلب مِن علامات نفخ الروح؛ فيكون ذلك مِن نهاية الأسبوع السادس، وإذا قلنا: إن اغتذاء الجنين كان كالنبات، فلما نفخت فيه الروح انضمت له حركة إرادية إلى حركة نموه واغتذائه؛ فقد أثبتت الأجهزة الحديثة رؤية حركات جسم الجنين في وقتٍ مبكرٍ؛ حيث يمكن أن تصور عند الأسبوع الثامن أو عندما يبلغ كيس الحمل 3 سم أو يبلغ طول الجنين حوالي 15 مم، كما يمكن حينئذٍ أن تُرى الحركات الجنينية التي تعبِّر عن حيوية الجنين، مثل: حركات التنفس، وحركات عدسة العين، وحركات الأمعاء الدودية.
كما رصدت الحركات التي تعبِّر عن "نشاط الجنين"، مثل: البلع، وحركة اليد إلى الفم والوجه، والمضغ وحركات اللسان، بل ومص الأصابع؛ وهي يمكن أن ترى عند الأسبوع السادس عشر؛ وهذا كله قبل مائة وعشرين يومًا! فتأمل... !
فحركات الجنين الإرادية وبدء عمل وظائف أعضاء الجنين الرئيسية تبدأ شيئًا فشيئًا في الأربعين يومًا الثانية مِن عمره، وأما موضوع الإجهاض؛ فالصحيح عندي تحريمه سواء أكان قبل الأربعين أو بعدها مطلقًا، إلا في الحالات المستثناة التي يذكرها العلماء: كالخوف المتحقق على حياة الأم، لكن حيث حُكي الإجماع على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح، وهو محتمل بعد الأربعين، فلا مناص مِن المنع منه بعد الأربعين؛ لأن نفخ الروح يكون بعد طور المضغة، وطور المضغة يبدأ ويكتمل وينتهي خلال الأربعين يومًا الأولى بيقين؛ فعليه يرجَّح القول بحرمة الإجهاض بعد الأربعين يومًا الأولى مِن بداية تلقيح البويضة وتكون النطفة الأمشاج، وتشتد الحرمة بعد مرحلة تمام التخليق، والله أعلم.
ولكن يبقى معنا أن هناك مَن نقل الإجماع على مسألة النفخ بعد الأربعة الأشهر، فنقل في الفتح عن القاضي عياض قوله: "ولم يختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة وعليه يعول فيما يحتاج إليه مِن الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف" (فتح الباري لابن حجر 11/ 485).
وواضح أن كلام القاضي يتعلق بثبوت وجود الجنين، للأحكام التي ترتب عليه، فإذا ثبت بغير الحركة كانت الأحكام أيضًا ثابتة كما لا يخفى، كما لو ظهرت الحركة المتحققة قبْل الأشهر الأربعة، فيكون الإجماع إنما هو على ما تتعلق به الأحكام المتعلقة مِن نفخ الروح، وكما قال الشاطبي: "فليس الخلاف في بعض الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة" (الموافقات 3/509).
وأيضًا قد قال ابن حجر: "وقد نقل الفاضل علي بن المهذب الحموي الطبيب، اتفاق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيها تتميز أعضاء الذكر دون الأنثى... قال: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر" (فتح الباري 11/ 481)، فالسياق لكلام الطبيب، وقد تقدم ما يبيّن رده.
وأما القرطبي فإنه قال: "لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس؛ كما بيناه بالأحاديث" (تفسير القرطبي 12/ 8)، وهو إنما بنى هذا على رواية: (يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم أربعين يومًا علقة ثم أربعين يومًا مضغة، ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح" فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح) (تفسير القرطبي 12/ 7).
ولم تثبت أي رواية مطلقًا في ذكر غير أربعين واحدة، بل الرواية التي ذكرها القرطبي هذه ليس لها وجود بهذا اللفظ إلا عنده.
وإنما نقل عن الحسن وأبي العالية أنه -تعالى- إنما حدّ العدة بهذا القدر؛ لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة، لكن هذا أيضًا باعتبار الحركة الظاهرة، وإلا فالعدة فيها المعنى التعبدي، فقد أجمعوا أن غير المدخول بها تتربص أيضًا هذه المدة؛ فلعل هذه الأربعة أشهر والعشر بعدها مِن الأمور التي لا يُعقل معناها: كأعداد ركعات الصلوات، وأنصبة الزكوات، ونحو ذلك، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.