كتبه/ خالد فوزي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال -تعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:12-14)، وقال: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) (آل عمران:6)، وقال -تعالى-: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ . ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (السجدة:7-9).
فهذه الآيات الكريمات تبيِّن أطوارًا مِن أطوار خلق الإنسان، وقد ورد في السُّنة أحاديث عن ذلك، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق قال: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ) (متفق عليه)، وقد فهم كثيرون أن المراد بقوله: (مِثْلَ ذَلِكَ): أي: في العدد، فصاروا يطلقون أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد الأربعين الثالثة، أي أربعة أشهر، وبنى بعضهم عليها أحكامًا، منها: جواز الإجهاض قبْل أربعة أشهر، أو كراهته فحسب، ونحو ذلك.
إلا أن الحديث ليس فيه إلا أربعين واحدة، وهو متوافق مع حديث حذيفة بن أسيد في صحيح مسلم ولفظه: عن أبي الطفيل عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ) (رواه مسلم). وفي رواية: (إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ، فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ رِزْقُهُ، فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ) (رواه مسلم)، فأنتَ ترى أن حديث ابن مسعود يتوافق مع حديث حذيفة بن أسيد، في أن كلًّا منهما ذكر (الأربعين الواحدة).
ويبقى الكلام في توجيه معنى: (مِثْلَ ذَلِكَ).
والظاهر أن المراد منها: المثلية في الجمع، وليس العدد؛ يعني يكون معناها: إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا يكون نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة، فالجمع كله في الأربعين، ويؤيده رواية مسلم: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ)، فهي تبيِّن أنه يكون (فِي ذَلِكَ) أي في نفس الأربعين، وبالتالي تتفق الروايات.
فتكون الأربعين الأولى محل الجمع للأطوار الثلاثة: "النطفة فالعلقة فالمضغة"، ولكن نظرًا إلى أن الحركات (الإرادية الظاهرية) لا تظهر بوضوح إلا بعد أربعة أشهر؛ فقد ظنَّ كثيرٌ مِن العلماء أن المراد بالمثلية العدد.
وقد حاول بعض العلماء الجمع أو الترجيح بين حديث ابن مسعود وحديث حذيفة كمن قال المراد بالأربعين في حديث حذيفة هي الأربعين الثالثة، وهو ما رده ابن القيم بشدة وقال: "وهذا بعيد جدا من لفظ الحديث، ولفظه يأباه كل الإباء" (التبيان في أقسام القرآن 1/ 214)؛ إلا أن ابن القيم مال إلى وقوع التقدير مرتين: "فالأول تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان، وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق، والتقدير الثاني عند كمال خلقه ونفخ الروح؛ فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عقد تمام خلقه وتصويره".
وقد أطال في "تحفة المودود بأحكام المولود" (1/258)، في الكلام على التوفيق بين الحديثين، لكن ذكر وجوهًا من الجمع بعيدة أيضًا، وكرر ذلك أيضًا في "شفاء العليل" (6/ 6)، وهي كلها تقضي أن طور المضغة يبدأ بعد الثمانين.
ولو نظرنا في (علم الأجنة) المعاصِر، لوجدنا أنه يقطع بوجود المضغة قبْل ذلك، بل ربما في الأسبوع الخامس، وربما قبل ذلك، لكن (الحركات اللا إرادية): كالنبض تظهر في نهاية الأسبوع السادس، ويظهر بالسونار أمام الطبيبة واضحًا، وحيث إن القلب مضغة، فقد ثبت قطعًا أن دور المضغة في الأربعين الأولى أيضًا.
ويبقى الكلام على نفخ الروح وما نقل مِن إجماعاتٍ في ذلك، ويكون موضع الحديث في المقالة القادمة -بإذن الله-.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.