كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الغرب علماني أم مسيحي؟ سؤال يردده الكثيرون، وتختلف أنظار الباحثين في الإجابة السليمة على هذا السؤال، فمنهم من يرون أن الغرب علماني.
والشواهد على ذلك كثيرة، منها: ما يتعلق بتاريخ أوربا وجذورها اليونانية ثم الرومانية، والتي تعتبر هي المهد الحقيقي للعلمانية حيث كانت ديانات اليونان ومن بعدهم الرومان ديانات وثنية، وكانت الفكرة المسيطرة على العقلية الأوروبية في ذلك الوقت أن الإله لا بد أن يكون إنسانًا خارقًا "super man"، وأن الانتقال من مرتبته البشرية إلى مرتبة الآلهة ـ على سبيل الجمع طبعًا ـ وكذا النزول من مرتبة الإلهية إلى مرتبة البشرية أمر طبيعي، وهو كثير التكرر في أساطيرهم، كما أن الصراع بين الآلهة ولعب البشر على وتر الخلاف بين الآلهة أمر كثير التكرر في أساطيرهم.
ومن ذلك أنهم يزعمون أن الإله الذي قرر إغراق البشر بالطوفان ليس هو الذي أوقفه، وإنما سعى البشر لدى إله آخر؛ فأوقف الطوفان، والغالب على دين اليونان والرومان كان اللعب واللهو، وطقوس العبادة عندهم هي صور من اللهو، ومن ذلك: الألعاب الأوليمبية التي كانت طقسًا من طقوس عبادة آلهة جبال الألب.
هذا من جهة التاريخ، وأما من جهة الواقع، فالبلاد الأوروبية قاطبة وحتى أمريكا وإسرائيل اللتان تتسمان بقدر أكبر من احترام الدين، إلا أنهم كلهم متفقون على إقصاء الدين عن أي قضية دنيوية في اقتصاد أو اجتماع أو نظم حياة، كما أن كثيرًا من الأمور التي ما زالت محرمة ـ حتى في كتبهم المحرفة ـ يقدمون عليها بكل جرأة ويُشَرِّعون القوانين المبيحة لها كالزنا والشذوذ، ومعلوم أن تجارة البغاء السري والعلني من أكثر التجارات رواجًا في إسرائيل، أضف إلى ذلك موجات الإلحاد الصريح في السينما الأوروبية والأمريكية والسخرية من الذات الإلهية والعياذ بالله. بالإضافة إلى السخرية من عيسى ـ عليه السلام ـ الذي هو بزعمهم هو الله أو ابن الله، ولا يتصدى -في الأعم الأغلب- لهذه الموجات الإلحادية إلا المسلمون، بينما النصارى أوربا وأمريكا هم الذين يدفعون أموالهم ثمنًا لأعمال سينمائية تسخر من دينهم.
" ظاهرة العزوف عن الذهاب إلى الكنائس ظاهرة في غاية الوضوح " |
ظاهرة العزوف عن الذهاب إلى الكنائس ظاهرة في غاية الوضوح، مما جعل الكنائس ـ حفاظًا على تدفق الأموال عليها ـ تقدم خدمة الصلاة مع قسيس عبر الهاتف، أو حتى مع جهاز الرد الآلي "answer m/c"، بينما تقدم بعض الكنائس خدمة الصلاة مع قسيس في كشك أمام الكنيسة "take away prayer"، هذه الشواهد وغيرها كثير تقول أن الغرب علماني مفرط في علمانيته.
وأما الفريق الذي يرى أن الغرب مسيحي، يقدم بعض الشواهد التاريخية من الفترة المعروفة في تاريخ أوربا بالعصور الوسطى حيث بلغت سيطرة الكنيسة مداها على مقاليد العباد، فسيطروا على السياسة، فكانوا يولون الملوك ويعزلونهم، وكان القساوسة هم أكثر الإقطاعيين امتلاكًا للأراضي، وقد بلغ بهم الحد إلى بيع الجنة للناس عن طريق صكوك الغفران، بعدما فرغوا من بيع وشراء الدنيا!!
وهؤلاء يرون أن العلمانية لم تمثل إلا فترة وجيزة من تاريخ أوروبا عادت بعدها أوربا ـ ومن باب أولى أمريكا ـ إلى دينهم المسيحي، وأصبحت ترى كثيرًا من الأحزاب السياسية الأوروبية تحمل وصف المسيحي، كالحزب الديمقراطي المسيحي، وغيرها، ومن أكثر المواقف دلالة على هذا الرأي تلك الحرب الصليبية التي أفلت لسان جورج بوش الابن بها في وصفه لحربه على الإرهاب في الشرق الأوسط.
والذي نراه أن أوربا مرت بعدة مراحل في حياتها:
الأولى: المرحلة اليونانية والرومانية، وهذه تمثل المرحلة العلمانية في أوضح صورها، ولم يكن الدين الوثني -حينئذ- إلا نوعًا من اللهو واللعب؛ لإشباع الحاجة الفطرية عند الإنسان لمن يتأله له.
الثانية: مرحلة نصرانية "قسطنطين" الإمبراطور الوثني الذي وجد في أقوال المثلثين من النصارى ـ على قلتهم في ذلك الزمان ـ فرصة سانحة لعمل دين موحد للإمبراطورية دون تغير حقيقي حتى في العقائد، حيث ألبست العقائد الوثنية ثوب المسيحية، وهذه المرحلة تمثل مراحل تعايش العلمانية والمسيحية جنبًا إلى جنب، لا سيما وأن مسيحية قسطنطين قد نسبت لعيسى ـ عليه السلام ـ قوله: "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر" ضمن قصة طويلة ليس هذا مجال سردها، وإنما الشاهد أنهم ينسبون إليه هذه المقولة مع حملها على المعنى الذي يريده العلمانيون.
وأيضًا ينسبون إليه قوله: "من كان منكم بلا خطيئة؛ فليرجمها بحجر" وهذه -أيضًا- ضمن قصة أخرى، ولكن الشاهد أنهم ينسبون إليه هذه المقولة مع تفسيرها أنه قالها دفاعًا عن امرأة زانية، وذلك؛ لتعطيل إقامة الحدود وزوال السلطان الدنيوي عن خطايا العباد.
الثالثة: مرحلة الطغيان الكنسي وتحول الكنيسة إلى وحش كاسر يتدخل في كل شؤون الحياة الدنيا -بل والآخرة-؛ اعتمادًا على الكذبة التي اخترعوها؛ لتمرير نسبة الأناجيل إلى الله -عز وجل-، وهي أن كتاب الأناجيل قد حل فيهم الروح القدس عند كتابتهم للأناجيل، ومن ثم؛ أصبحوا يستدعون الروح القدس -في زعمهم- حتى عندما كفشتهم قوانين الفيزياء والفلك والتي أثبت العلم بعد ذلك كذبها؛ فاضطروا إلى تعذيب وقتل العلماء؛ ليرجعوا عن أقوالهم التي كشفت كذب ادعائهم بحلول روح القدس فيهم.
الرابعة: هي مرحلة العلمانية المفرطة التي كانت رد فعل عنيف للسيطرة الطاغية للكنيسة على مقدرات البلاد والعباد، وهذه المرحلة التي نرى أنها لم تدم طويلاً لا سيما في المعسكر الغربي.
الخامسة: وهي المرحلة الحالية، وهي: شعورهم بالحاجة إلى الدين؛ لأداء بعض الدور الاجتماعي والتوجيهي مع بقاء الحياة كلها بعيدة عن إلزاماته، ويمثل الأمر الذي يجتمع عليه الغرب لغياب كل المقومات الأخرى؛ نتيجة اختلاف اللغة ووجود الحروب والصراعات بين الشعوب الأوربية، وكذلك مواجهة المسلمين، فإنه يصعب على الساسة أن يبرروا حروبهم مع شعوب العالم بأنها حرب على الملك وعلى الثروات ـ وإن كانوا يصرحون بهذا أحيانًا ـ ولكن لا شك أن عامل الدين له بريق أكثر من غيره.
ولذلك؛ فلا عجب أن تجد الدنيا تقوم ولا تقعد من أجل إسلام عدد من النصارى، بينما النصارى أنفسهم ينتجون الأفلام الساخرة من عيسى ـ عليه السلام-، وقد عبر البعض عن ذلك بقوله: "إن الغرب علماني الديانة، مسيحي الهوية"، وحيث إنه لا يخشى على هويته إلا من الإسلام، فهو لا يتذكر تلك الهوية إلا أمام المسلمين.