كتبه/ محمود عبد الحفيظ البرتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن نصرة المسلمين لبعضهم واجبةٌ متحتِّمةٌ؛ فـ(الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه).
وقال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة: 71)، وقال -عز وجل-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10).
وقال -تبارك وتعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72).
فتتمة قوله -تعالى-: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) هو قوله -عز وجل-: (إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ)؛ فمنع الله -تعالى- المؤمنين من نصرة إخوانهم المسلمين المستضعفين إن كان يترتَّب على ذلك نقضٌ للعهد، ومخالفة لهدنة أو موادعة بين المسلمين والكافرين، واستثنى مِن وجوب نصرة المسلمين لبعضهم أن تكون هناك معاهدات قائمة، فيلزم الوفاء بها والقيام بحقوقها، وأوجب -سبحانه وتعالى- مراعاة العهود والمواثيق، والوفاء بها في غير ما آية في كتابه العزيز؛ كما في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1)، وقوله: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء: 34)، وقوله: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) (التوبة: 4)، وقوله: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد: 20).
ولذلك فإن من "المزايدات الرخيصة" على صاحب الشريعة -كتابًا وسنة-: القول بلزوم نصرة المستضعفين من المسلمين على أيِّ حال؛ ولو بنقض العهود والمواثيق، وإهدار ما اشترطه الله من رعاية العهود والمواثيق، والتشنيع على أهل العِلْم، وخيار علماء الأمة ممَّن يستدل بأدلة الكتاب والسُّنة، ويبيِّن حكم الشرع في بيانات أهل الجهل، وفتاواهم بأن جهاد الدفع لا اعتبار فيه لقواعد المصالح والمفاسد، والقدرة والعجز، وإعمال الموازنات الشرعية؛ ودعوتهم للأفراد والآحاد "بل ودعوة طياري البلدان للخروج بطائراتهم" لقتال اليهود!
وبعض هؤلاء يستدل على ذلك -بسوء فهمه- بقوله -تعالى-: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا) (النساء:84)، على الدخول في مصادمات محسومة العاقبة تضر ولا تنفع، ويتأولها على أن ذلك من الشرع؛ أن يدعو الناس لجهاد اليهود ولو فرادى، ولو بلا عدة أو سلاح!
قال ابن عطية -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "لَمْ يَجِئْ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ عَلَيْهِ دُونَ الأُمَّةِ مُدَّةً مَا، فَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خِطَابٌ لَهُ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ مِثَالُ مَا يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، أَيْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِكَ الْقَوْلُ لَهُ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَسْتَشْعِرَ أَنْ يُجَاهِدَ وَلَوْ وَحْدَهُ" (المحرر الوجيز).
والتطبيق العملي في السيرة النبوية الشريفة يبطل هذا التأويل، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخرج قط منفردًا لقتال، ولم يأمر بذلك، ونبيا الله موسى وهارون -عليهما السلام- لم يخرجا ليقاتلا وحدهما لما امتنع بنو إسرائيل عن الدخول على القوم الجبارين مع وعد الله بالنصر والغلبة إذا دخلوا عليهم الباب.
لكن يصر أهل الجهل والأهواء على دغدغة عواطف المسلمين ومشاعرهم بهذه الخطابات لتثويرهم، وتحقيق مآرب خاصة لهم؛ كل هذا بزعم الولاء لأهل الإسلام، والشفقة عليهم، ومحبة الجهاد في سبيل الله!
ولذلك انطلقت الألسنة الحداد، وعلت الأصوات الناقمة، وانبرت الأقلام المسعورة؛ لتعمل السب والشتم في شخص العالم الجليل الدكتور ياسر برهامي -حفظه الله-؛ الذي ما زاد على تلاوة آياتِ الله، وبيان ما دلَّت عليه بأدلة الكتاب والسنة، وبيان وجوب مراعاة العهود والمواثيق، وقواعد المصالح والمفاسد، والقدرة والعجز، وتحريز المسلمين، وصيانة دمائهم وأعراضهم وحرماتهم، وأن الجهاد ما شرع أصلًا إلا لذلك؛ فكيف يعود على مقصوده بالنقض والهتك؟!
وهل يكون جهادًا مشروعًا ما يؤدي إلى إبادة المسلمين، وهتك أعراض المسلمات، وتدمير مقدرات بلاد أهل الإسلام، واضطرار أهلها إلى هجرة بلدانهم ومفارقة أوطانهم؛ مما يحقق أعظم أهداف الأعداء؟!
إنَّ ما ذكره الدكتور "ياسر برهامي" -حفظه الله- في تفسير الآية الكريمة، وفي قضية العهود واعتبار المصالح والمفاسد في الجهاد -بنوعيه: جهاد الدفع وجهاد الطلب- لم يختلف فيه العلماء، وهاك بعضًا من أقوالهم في ذلك:
قال الشافعي -رحمه الله-: "وإذا دخل جماعة من المسلمين دار الحرب بأمان فسَبَى أهل الحرب قومًا من المسلمين لم يكن للمستأمنين قتال أهل الحرب عنهم حتى ينبذوا إليهم، فإذا نبذوا إليهم فحذَّروهم وانقطع الأمان بينهم، كان لهم قتالهم، فأما ما كانوا في مدة الأمان فليس لهم قتالهم" (الأم للإمام الشافعي).
وقال -رحمه الله- أيضًا: "إذا دخل قومٌ من المسلمين بلادَ الحرب بأمانٍ؛ فالعدوُّ منهم آمنون إلى أن يفارقوهم، أو يبْلُغُوا مدَّةَ أمانِهم، وليسَ لهم ظُلْمُهم، ولا خيانَتُهم. وإن أَسَرَ العدوُّ أطفالَ المسلمينَ ونساءَهم؛ لم أَكُنْ أُحبُّ لهم الغَدْرَ بالعدوِّ، ولكن أُحبُّ لهم لو سأَلُوهم أَنْ يَردُّوا إليهم الأمانَ، ويَنْبِذُوا إليهم، فإذا فعَلُوا؛ قاتلُوهم عن أطفالِ المسلمين ونسائِهم" (الأم).
وهذا النبذ للعهود إنما هو في العهود الجائزة والمطلقة، وأما العقود اللازمة والمؤقتة بمدة محددة؛ فيجب الوفاء بها ما لم ينقضها الكفار؛ قال الله -تعالى-: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 4).
قال ابن عطيَّة -رحمه الله-: "وقوله: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) يعني: إن استدعَى هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا نصرَكم على قوم من الكفرة، فواجبٌ عليكم نصرُهم؛ إلا إنْ استنصروكم على قومٍ كفارٍ قد عاهدتموهم أنتم، وواثقتموهم على ترك الحرب؛ فلا تنصروهم عليهم، لأنَّ ذلك غدْرٌ ونقضٌ للميثاق، وترك لحفظ العهد، والوفاء به" (المحرر الوجيز).
وقال ابنُ كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى-: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) هؤلاء الأعراب، الذين لم يهاجروا في قتالٍ دينيٍّ، على عدوٍّ لهم؛ فانصروهم، فإنَّه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم إخوانُكم في الدِّين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) أي: مهادنةٌ إلى مدَّة، فلا تخفروا ذمَّتكم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم" (تفسير ابن كثير).
فرب العزة -تبارك وتعالى- هو الذي أمر بمراعاة العهد وقدَّم ذلك على نصرة المستضعفين "وليس الدكتور ياسر برهامي!"، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد صالح أهل مكَّة "في الحُديبية" في السنة السادسة بعد الهجرة، وكان من شروط الصلح: أن يردَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَن يلحق به مِن كفَّار مكة مسلمًا أو يريد الإسلام، فجاءه هناك أبو جندلِ بنُ سُهيل بن عمرو مسلمًا، فطالبوا به؛ فردَّه إليهم، فصرخَ أبو جندلٍ ـ بأعلى صوته ـ: يا معاشر المسلمين! أُردُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلمًا، ألا تَرونَ إلى ما لقيتُ؟! وكان قد عُذِّب عذابًا شديدًا في الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أبا جندلٍ! اصبِرْ واحتسبْ، فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- جَاعِلٌ لكَ، ولِمَن مَعَك مِن المُسْتَضْعِفين فَرَجًا ومَخْرَجًا، إنَّا قد عقَدْنا بيننا وبين القوم صُلْحًا، فأَعطيناهم على ذلكَ، وأعطونا عليه عهدًا، وإنَّا لن نَغْدِرَ بهم) (أخرجه أحمد وأصله عند البخاري).
فأين هؤلاء من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته الشريف؟!
ألم يصبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على أذى المشركين، وكان يصبِّر المستضعفين من المسلمين على ما يتعرَّضون له من عظيم البلاء، كما قال: (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)؟!
ألم يقل -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة في غزوة الأحزاب: (اذْهَبْ؛ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ) (رواه مسلم)؟! وهذا حفظًا لبلد الإسلام -المدينة النبوية- وصيانة للمسلمين أن يثور عليهم الكفار إن فعل حذيفة -رضي الله عنه- ما يهيجهم على المسلمين.
وهذه رسالة من أحد العلماء المعاصرين -ممَّن أجمعت الأمة على فضله وإمامته-، وهو سماحة العلامة الشيخ ابن باز للشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في أمر العهود والمواثيق لما كتب الشيخ أحمد شاكر يستنفر المسلمين في كلِّ مكان لمحاربة الإنجليز لعدم جلائهم عن مصر؛ فكتب إليه الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "ثم أشعر فضيلتكم أني لما قرأتُ كلمة الحق المنشورة في "مجلة الهدي" الصادرة في ربيع أول سنة 71 وجدت فيها مواضع لم تظهر لي حجة ما اعتمده فضيلتكم فيها، وأحببت مذاكرتكم في ذلك؛ ليظهر الصواب للجميع؛ أداءً لواجب التناصح، والأخوة الإيمانية، جعلني الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعملون، وهذا بيان المواضع:
الأول: قلتم في صفحة 13: يجب على كل مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أن يحاربهم، وأن يقتلهم حيثما وُجِدوا؛ مدنيين كانوا أو عسكريين، إلخ.
أقول: هذا التعميم والإطلاق فيه نظر؛ لأنه يشمل المسلمين الموجودين في مصر وغيرهم.
والصواب: أن يُستثنى مِن ذلك مَن كان مِن المسلمين رعية لدولة أخرى من الدول المنتسبة للإسلام التي بينها وبين الإنجليز مهادنة؛ لأن محاربة الإنجليز لمصر لا توجب انتقاض الهدنة التي بينها وبين دولة أخرى من الدول الإسلامية، ولا يجوز لأي مسلم من رعية الدولة المهادنة محاربة الإنجليز؛ لعدوانهم على مصر وعدم جلائهم عنها.
والدليل على ذلك: قوله -سبحانه- في حقِّ المسلمين الذين لم يهاجروا: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ). ومن السُّنة: قصة أبي جندل وأبي بصير لما هربا من قريش وقت الهدنة، والقصة لا تخفى على فضيلتكم" (ينظر: الرسائل المتبادلة بين الشيخ ابن باز والعلماء، ص 593).
- ومِن الدعاوى الباطلة قول بعضهم: إن استثناء نصرة المسلمين المستضعفين متعلق بتركهم الهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ)، فهي متعلقة بمسلمين لم يهاجروا وبقوا في بلاد الكفار!
ولا شك أن هذه دعوى زائفة، وغفلة عظيمة عن أحداث غزوة الحديبة التي طبق فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية الكريمة؛ فإن أبا جندل وأبا بصير -رضي الله عنهما- قد هاجرا بالفعل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهربا من المشركين، ومع ذلك فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ينصرهما، بل ردَّهما إلى المشركين، ووفَّى لهم بالعهد والميثاق، والله -عز وجل- لم يجعل المانع من نصرة المستضعفين تركهم الهجرة، وإنما وجود ميثاق وعهد مع المشركين.
- ومن هذه الدعاوى أيضًا قول بعضهم: الوفاء بالعهود مع الكفار -مع عدوانهم على بعض المسلمين- فيه إسقاط لما توجبه الأُخوة الإيمانية والإسلامية من مناصرة المسلمين لإخوانهم، وأن في ذلك تخذيلًا عن تأييد المسلمين المستضعفين في فلسطين -أو في أي مكان-!
وجواب ذلك: أن قوله -تعالى-: (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) ليس فيه النهي عن نصرة المستضعفين من المسلمين بإطلاق، وإنما المحظور أن يتوهَّم المسلم أنه في حِلٍّ من عقد الأمان؛ الذي أمره الله بالتزامه إذا عقده، وأقرَّ به للكفار.
فنصرة المستضعفين من المسلمين لا يلزم أن تكون بالقتال، أو نبذ العهود وعقود الأمان، بل قد تكون بصورٍ وأشكال كثيرةٍ؛ مِن: المساعدات الإنسانية والإغاثية، ونشر القضية، وأعظم من ذلك كله: الدعاء والتضرع إلى الله لرفع البلاء عن المسلمين في كلِّ مكان، وغير ذلك من أسباب وأساليب الدعم والنصرة للمسلمين.
فقوله -تعالى-: (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) إنما ينهى عن النصرة بالقتال عند وجود المانع من هذه النصرة؛ وهو: العهود والمواثيق، فإذا نبذنا إلى الكافرين عهودهم جاز لنا قتالهم؛ كما قال الله -تبارك وتعالى-: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال: 58).
وهذا النبذ للعهود والمواثيق من دولة إسلامية مع عدوٍّ محارب لدولة مسلمة أخرى، مشروط بأن يكون نبذ العهد في مصلحة المسلمين في هذا البلد، وتوافر أسباب النصر لهم على أعدائهم؛ أما إن كان المسلمون في بلدٍ لا استعداد لهم لقتال عدوهم، وليس في مصلحتهم نبذ العهد إليه؛ فكيف يقال لهم: يلزمكم أن تلحقوا المضرة ببلادكم، وتذعروا الكفار عليكم لتنالوا مصير إخوانكم؟!
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- لما أراد ثمانون رجلًا من المشركين أن يقتلوه بعد صلح الحديبية مباشرة وأُمْسِكَ بهم، كما في الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ؛ فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا فَاسْتَحْيَاهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عز وجل-: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) (رواه مسلم)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (دَعُوهُمْ، يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وَثِنَاهُ) (رواه مسلم)؛ لأن هذا شأن المشركين دومًا "وخصوصًا اليهود"؛ أنهم لا يعرفون الوفاء بالعهود.
والشاهد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينبذ العهد مع قريش -رغم النقض منهم- لما كانت مصلحة المسلمين في استمرار العهد والصلح معهم؛ فدَلَّ ذلك على أن المشركين إذا نقضوا العهد مع المسلمين في أيِّ نوعٍ من أنواع العهود؛ فلا يلزمنا نبذ العهد مِن ناحيتنا إن كانت مصلحة المسلمين في البقاء عليه، والأمر مرده لأهل الاختصاص من القادة والأمراء حسب مصلحة المسلمين في ذلك، وبمراجعة أهل العِلْم.
بل نص أهل العلم على أن لأهل الإسلام ابتداء الكفار بطلب الصلح "ولو بدفع مال للكفار" إن كان في هذا مصلحة للمسلمين؛ قال القرطبي -رحمه الله-: "قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) (محمد: 35)، فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَجَمَاعَةً عَدِيدَةً، وَشِدَّةً شَدِيدَةً فَلَا صُلْحَ ... وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ، لِنَفْعٍ يَجْتَلِبُونَهُ، أَوْ ضَرَرٍ يَدْفَعُونَهُ؛ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ" (تفسير القرطبي).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-: "لا تَجوزُ المُهادَنَةُ مُطْلقًا من غيرِ تَقْديرِ مُدَّةٍ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى تَرْكِ الجهادِ بالكُلِّيَّةِ ... وَتَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ. وَأَمَّا إنْ صَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ نَبْذُلُهُ لَهُمْ؛ فَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ؛ فَأَمَّا إنْ دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَهي: أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلَاكَ أَوْ الْأَسْرَ، فَيَجُوزُ ... وَلِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ صَغَارٌ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَهُوَ: الْقَتْلُ، وَالْأَسْرُ، وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ؛ الَّذِينَ يُفْضِي سَبْيُهُمْ إلَى كُفْرِهِمْ" (المغني).
وقال الشيباني رحمه الله في "السِّيَر الكَبِير": "وَإِذَا خَافَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ فَطَلَبُوا مُوَادَعَتَهُمْ فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُوَادِعُوهُمْ حَتَّى يُعْطِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ مَالًا؛ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ" (شرح السِّير الكبير).
فلا تجعلنا تهاويل المهوِّلين، واتهاماتهم الباطلة بالعصبية والتبعية والعبودية؛ أن نـَفـْرَق من نصرة الحق وأهله؛ فرارًا من أقوالهم وتسمياتهم -التي يضعونها في غير موضعها-.
وإن المقصود -من هذا المقال- ليس مجرد انتصار لقول عالم من العلماء، أو إنصاف رجل من أهل العلم والدعوة إلى الله، وإنما في المقام الأول الحفاظ على المنهج الذي يمثـِّله هذا العالِم وينافح عنه.
وقد كان السلف -رحمهم الله- يعدون الطعن على أهل السنة والمنافحين عنها من علامات أهل البدع والضلال، بل قد يعدون الرجل من أهل البدع بمجرد طعنه فيهم؛ قال أبو زرعة -رحمه الله-: "إذا رأيتَ الكوفي يطعن على سفيان الثوري وزائدة: فلا تشك أنه رافضي، وإذا رأيت الشامي يطعن على مكحول والأوزاعي: فلا تشك أنه ناصبي، وإذا رأيت الخراساني يطعن على عبد الله بن المبارك: فلا تشك أنه مرجئ، واعلم أن هذه الطوائف كلها مجمعة على بغض أحمد بن حنبل؛ لأنه ما مِن أحدٍ إلا وفي قلبه منه سهم لا برء له" (طبقات الحنابلة).
وقال نعيم بن حماد -رحمه الله-: "إذا رأيت العراقي يتكلم في أحمد بن حنبل؛ فاتهمه في دينه. وإذا رأيت البصري يتكلم في وهب بن جرير؛ فاتهمه في دينه. وإذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق بن راهويه؛ فاتهمه في دينه" (تاريخ بغداد).
وقال قتيبة بن سعيد -رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل؛ فاعلم أنه صاحب سنة وجماعة".
وبالمقابل قال أبو جعفر الغَلَّاس -رحمه الله-: "إذا رأيت الرَّجُلَ يقع في أحمد بن حنبل؛ فاعلم أنه مبتدعٌ" (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم).
ولم يكن هذا عصبية للعلماء أو تقديسًا لهم؛ وإلا فلا يزال العلماء وتلامذتهم عبر العصور يخالفون هؤلاء الأئمة -كالإمام أحمد وغيره- في كثيرٍ من المسائل، ويرون الراجح خلافها، بل حتى مِن أتباع المذهب نفسه؛ فما كان ذلك إلا لأن هؤلاء رموزٌ للسُّنة يُقتدَى بهم ويُتَّبعون على المنهج الحق، والإمام أحمد -رحمه الله- صار رمزًا من رموز السُّنة، ما يحبه المسلم؛ إلا لأنه يحب دينه، ويحب عقيدته، ويحب مذهبه، ويحب صبره، ويحب ما كان عليه، والذي يبغض أحمد إنما يبغضه لدينه ومسلكه ومذهبه، وما كان عليه.
ومن هذا الباب: ما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ).
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيَّ: أَنْ لا يُحِبَّنِي إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضَنِي إِلا مُنَافِقٌ" (رواه مسلم).
نسأل الله الإخلاص في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين.