كتبه/ مصطفى دياب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد وصلت رسالة الصديق إلى "أبي عبيدة" بالتنحي عن قيادة الجيش، وتسليم اللواء لـ"خالد بن الوليد" صاحب الخبرة الحربية العالية، وما زال "خالد" يقطع الصحراء، ولم يصل بعد إلى "أبي عبيدة"، وبمجرد وصوله استقبله "أبو عبيدة" بالترحيب، وسلمه لواء الجيوش، وأصبح القائد السابق جنديًّا من أطوع جنود القائد الحالي تحت إمرة "خالد بن الوليد" -رضي الله عنه-.
بدأت معركة "اليرموك" بين جيوش المسلمين وبين جيوش "الروم"، وقد أمر عليهم "هامان"، وكان "أبو عبيدة" قائدًا لأحد الجيوش في هذه المعركة، وأبلى فيها بلاء حسنًا، وأثناء التحام الجيوش والمعركة على أشدها مات "أبو بكر الصديق" -رضي الله عنه-.
وكتب "عمر" إلى أبي عبيدة -رضي الله عنه- يقول: "انتقل "أبو بكر" إلى رحمة الله، وقد أمرت بعزل "خالد بن الوليد" عن إمارة الجيوش، وعليك أنت يا "أبا عبيدة" أن تتولى الإمارة، فأبلغ "خالدًا" بما أمرت به، والسلام عليك".
لقد كان "عمر" -رضي الله عنه- حريصًا على عقيدة الناس وصلاح قلوبهم، ولذا؛ خشي أن يتعلق الناس بـ"خالد"، وتنحرف قلوبهم عن التوجه لله -تبارك وتعالى-، كما كان يخاف على "خالد" -رضي الله عنه- أن يدخله عجب أو غرور فيهلك الجيش ويهلك "خالد" -رضي الله عنه-.
لقد بلغ "خالد" في قلب "عمر" منزلة عظيمة، فقد قيل لـ"عمر": "لو عهدت يا أمير المؤمنين، قال: لو أدركت "أبا عبيدة"، ثم وليته ثم قدمت على ربي، فقال لي: لم استخلفته؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ "أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ") (متفق عليه)، ولو أدركت "خالد بن الوليد" ثم وليته، فقدمت على ربي لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: (خالِدُ بنُ الوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الله، سَلَّهُ الله على المُشْرِكِينَ) (رواه ابن عساكر، وصححه الألباني.).
تحليل وفوائد:
1- أخي الحبيب، ما أرق هذه القلوب! وما أعمق علومها! وما أكثر تقواها وخشوعها! وما أروع تجردها لله وحبها! لقد نال خالد من مدح القوم ما نال، وهو له أهل، ها هو عمر الذي يقول فيه: "عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"، وهذا خالد القائد المعزول يوصي عند موته بخيله وسلاحه لـ"عمر" في سيبل الله.
أرأيت كيف كان حب "عمر" لـ"خالد" وخوفه عليه؟ وكيف كان حب "خالد" لـ"عمر" -رضي الله عنه-؟ إن مثل "خالد" لا يُبكى بدمع العين، بل يُبكى بقطر الدم، إن عزل "خالد" الآن خير له ولجيش المسلمين.
2- التجرد لله من أسباب سلامة القلب، فقد استوى الأمر عند "أبي عبيدة" أن يكون جنديًّا أو قائدًا، وهذا؛ لأنه يخدم دين الله، ويعمل لله بإخلاص في أي مكان، لا يبتغي شهرة ولا سمعة.
3- أمتنا أمة ولادة لا تموت بموت القادة، وكذلك دعوتنا لا تموت بموت الدعاة، ولا تسافر بسفرهم حتى تكون دعوة ناجحة، فقد مات "الصديق" ولم تتوقف المسيرة، بل استكمل الطريقَ رفيقُهُ في الطريق "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه-.
4- الحرص على عقيدة الناس أهم من الانتصار في الحروب، ماذا يكسب "عمر" إذا انتصر على "الروم" وضاعت عقيدة المسلمين؟! ولذا؛ رأى أن يعزل خالدًا الذي تعلقت قلوب الجنود به حتى كادوا يظنون أن النصر مع "خالد".
5- إن ثبات العقيدة ورسوخها صورة من صور انتصار المنهج.
6- حب الدين مقدم على حب الأشخاص، ولذا؛ عزل "عمر" خالدًا؛ حفاظًا على عقيدة المسلمين.
7- الحب الحقيقي الصادق بين "عمر" و"خالد" -رضي الله عنهما-.
8- دفعك الفتنة عن صاحبك من أعظم صور الحب.