كتبه/ مصطفى دياب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان في محطتنا السابقة إصدار قرار عزل "خالد" من قيادة الجيوش، وبلغ هذا القرار "أبو عبيدة" وطلب منه الخليفة "عمر"-رضي الله عنه- أن يبلغ قرار العزل إلى "خالد"، ولم ير "عمر" في ذلك بأسًا، فالنفوس سوية تعمل لله، وكلهم إخوة في الله مخلصين ناصحين لدين الله، ولذا؛ قرر أبو عبيدة أن يؤخر إعلان الخبر ويتحمل المسئولية.
الأمين يكتم السر:
وفي هذا الموقف تجلت حكمة أمين الأمة، فقد برهن "أبو عبيدة" -رضي الله عنه- على أنه "أمين هذه الأمة" كما سماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاعتزم إخفاء الأمر؛ حرصًا على نصر المسلمين وفوزهم في المعارك الدائرة، وقدر "أبو عبيدة" ما سيكون لهذا الخبر من وقع سيء على معنويات الجيش.
ومن ناحية أخرى فقد كان هاجس غضب الخليفة وعصيان أمره يؤرق أمين الأمة، إلا أن مصلحة المسلمين اقتضت هذا الموقف ولو مؤقتًا، ولم يتأت ذلك من فراغ، فقد كان "أبو عبيدة" -رضي الله عنه- بعيد النظر فيما يراه، مؤمنًا بأنه سليم العقيدة والاعتقاد، لذلك؛ فقد اقتنع بأن وجود "خالد" على رأس الجيش في هذه الظروف العصيبة عامل أساسي في تحقيق النصر المرتقب -إن شاء الله-.
ومما ساعد على اقتناع "أبي عبيدة" بهذا وجوده وسط الميدان واطلاعه عن قرب بالموقف العسكري هناك، ووقع أي أخبار سيئة على الجنود، وانتهى به الأمر إلى كتمان هذا السر، وجعل خبر عزل "خالد" في طي الكتمان حتى يجيء وقته المناسب.
وخاضت جيوش المسلمين معارك الفتح العظيم في "اليرموك" تحت قيادة "خالد بن الوليد" وبإمرته أربعة من القادة العظام هم: "عمرو بن العاص"، و"يزيد بن أبي سفيان"، و"شرحبيل بن حسنة"، و"أبو عبيدة بن الجراح" -رضي الله عنهم أجمعين-.
وكان النصر حليف المسلمين، فقد قاتل المسلمون ببراعة شديدة، فزحف "خالد" -رضي الله عنه- حتى تصافحوا بالسيوف، ونهض "خالد" -رضوان الله عليه- للروم ونادى في المسلمين: "من يبايع على الموت؟".
فبايعه "الحارث بن هشام"، و"ضرار بن الأزور" -رضي الله عنهما- في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، مما أشعل الحماسة في كتائب الجيش كله فنشب القتال عنيفًا، وفي ذلك اليوم العظيم أبلى المسلمون وفرسانهم بلاء حسنًا، وقاتلوا قتالاً رائعًا، حتى النساء كان لهن نصيب، يقمن بسقي الجند ومداواة الجرحى.
وأصيب من وجوه المسلمين ثلاثة آلاف، قُـتلـوا جميـعًا إلا مـن برأ منهـم، واستشهد ممن استشهد يوم "اليرموك": عكرمة ابن أبي جهل وابنه عمرو بن عكرمة –رضي الله عنهما- فجعل خالد يمسح وجوههما ويقطر الماء في حلقهما.
وانتهت المعركة بنصر مظفر للمسلمين، ولكن "خالدًا" لم يهدأ له بال فقد اتجه فكره وجهده إلى فتح "دمشق"، وهي آخر حصن للروم في "الشام"، كما أنها عاصمتهم، وكان لابد من التشاور بين القادة.
ظل "أبو عبيدة" كاتمًا للسر إلى أن يشاء الله...
فوائد وتحليل:
1- مصلحة الأمة مقدمة على مصلحة الفرد، فقد كان بوسع "أبي عبيدة" أن يعزل "خالدًا" فور وصول الرسالة ويتولى هو قيادة الجيش ولكنه نظر لمصلحة الجيش ومستقبله؛ لأنه يعمل عملاً جماعيًّا يقدم فيه مصلحة المجموع على مصلحة الفرد.
2- عدم تطلع الصحابة للزعامة، فلم يلهث "أبو عبيدة"؛ لتنفيذ القرار وتولي الأمر.