كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد رفع إليَّ بعض الإخوة عددًا مِن الردود على مقالي: "حكم حلق اللحية والأخذ منها"؛ كلها تقريبًا مِن دارسين للمذهب الشافعي، ويدافعون عن معتمد مذهبهم في مقابل ما ذكرتُه نقلاً عن أئمة شافعية في أن "الشافعي" قد صرَّح بالتحريم، وأجبتُ عما قرره "الرافعي" و"النووي" مِن الكراهة برغم وجود التصريح عن الإمام فيما أرى فقلتُ: "وثمة نزاع في مذهب الشافعي، ومِن المفيد تحقيقه رغم أنه قال: كل يؤخذ مِن قوله ويُترَك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن بلا شك أن الأمر الذي يتفق عليه الأئمة الأربعة يزداد قوة في نفس العلماء وطلبة العلم؛ فضلاً عن العوام.
فنقول: إن الإمام الشافعي قد صرَّح بحرمة حلق اللحية في كتاب الأم فقال: (باب أرش سلخ الجلد): (وَلَوْ حَلَقَهُ حَلَّاقٌ فَنَبَتَ شَعْرُهُ كَمَا كَانَ أَوْ أَجْوَدَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَالْحِلَاقُ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ نُسُكًا فِي الرَّأْسِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ أَلَمٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي اللِّحْيَةِ لَا يَجُوزُ فَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ أَلَمٍ وَلَا ذَهَابُ شَعْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الشَّعْرُ نَاقِصًا أَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ كَانَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ).
ولعل تناول الشافعي -رحمه الله- لمسألة اللحية عَرَضًا في ثنايا مسألة أخرى وبعبارة موجزة أدى إلى أن يفوت الرافعي والنووي -رحمها الله- هذا النص رغم تبحرهما في مذهب الشافعي فخرَّجا للشافعي قولاً بالكراهة، ولكن استدرك عليهما ابن الرفعة فيما حكاه عنه ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج حين قال: (قال الشيخان يُكره حلق اللحية، واعترض ابن الرفعة في حاشية الكافية بأن الشافعي نصَّ في الأم على التحريم).
ملاحظة:
حاول بعض المعاصرين تأويل كلمة "لا يجوز" الثابتة عن الشافعي بأنها تعني لا يباح فتحتمل الكراهة والتحريم، فتحمل على الكراهة بناءً على قول الرافعي والنووي وهو تعسف بعيد كما لا يخفى. كما حاول البعض تأويل قول النووي بأنه يعني الكراهة التحريمية وهو أمر تأباه نصوصه المفصلة".
هذا ما قلتُه في المقالة السابقة.
- وقد انتقد بعضهم ترجيحي لاستدراك "ابن الرفعة" على "الرافعي" و"النووي"، ودللوا أن الحق مع الرافعي والنووي كما هو معتمد المذهب ولهم ذلك، ولكن بالطبع ليس لهم أن يجبروا الجميع بما في ذلك أئمة في مذهب الشافعي أن يفهموا نفس فهمهم، ومِن أعجب ما تجده مَن يطالبك بأن يتسع صدرك للخلاف في فهم الأدلة، ولا يتسع صدره للخلاف في فهم كلام عالم مِن العلماء!
- تهكم بعضهم عليَّ أنني أدعي اكتشاف ما فات الرافعي والنووي ولا أدري: هل قرأ المقالة أم لا؛ لأني كنتُ أنقل استدراك أئمة في المذهب الشافعي على الرافعي والنووي؟! ثم إن النقل موجود بالفعل في "الأم"، فلم يعد ثمة مجال لنقول مَن أصاب ومَن وَهِم مِن الفريقين: الرافعي والنووي ومَن وافقهما، أم ابن الرفعة وابن حجر الهيتمي ومَن وافقهما؟! (وما أشبه النزاع في هذه المسألة بقصة عنز ولو طارت!).
- ادعى بعضهم أن عبارة الشافعي لا تتكلم عن حكم حلق اللحية أصلاً!
والعبارة كما سبق حكايتها تعلل لماذا لا يعد التعدي بحلق شعر الرأس أو اللحية جناية بأن فيها نُسُكًا في الرأس، وليس فيها ألم، وتقدير الكلام: وكذلك اللحية حتى وإن كان حلقها لا يجوز فهي ليست جناية؛ لأنها ليس فيها كثير ألم ولا ذهاب شعر.
وتأويل هذه العبارة للفرار مِن الاعتراف بأنه فاتت عالمًا مع جلالته "يدلنا على خطر الاستغراق في هذا النوع مِن الدراسة المذهبية، والتي تربي في أتباعها روح التأويل للنصوص ولأقوال العلماء للدفاع عن أقوال علماء آخرين!".
- ذكر بعضهم أن "لا يجوز" في كلام الشافعي لها أحوال ثلاثة: إما أن تأتي معها قرينة تدل على التحريم، أو تأتي بدون قرينة فتحمل على التحريم، أو مع قرينة تدل على الكراهة التنزيهية فتحمل عليها، وكلام الشافعي هنا مِن الحالة الثانية، فكان ينبغي حمله على التحريم؛ إلا أنه تكلف لها قرائن.
- هل يمكن أن يكون هذا النقل قد فات الرافعي والنووي أم أن الأولى حمله على أنهما استحضراه عند الكلام على اللحية، ولكن حملاه على الكراهة؟
والإجابة هل مِن الممكن أن يستحضرا نقلاً عن الإمام يتحدث عن المسألة بغض النظر عن دلالته ثم يعرضان عنه ألبتة فلا يذكرانه ولا يوجهانه؟ أظن أن هذا بعيد جدًّا.
- قال كثير مِن الأئمة: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، والشافعي أشهر مَن قال ذلك، والشافعية مِن أكثر مَن قال بإعمال هذه القاعدة، فيقولون بأنه يُنسب للمذهب ما صح مِن الأحاديث وإن خالفت قول الإمام (وبالطبع لهم شروط فيمن يقوم بهذا الأمر)، ولكن إن وجدنا ظاهر قول الإمام يوافق ظاهر الأحاديث الصحيحة ويوافق مع عليه الأئمة الثلاثة ويوافق ما عليه جمع مِن علماء المذهب: ألا تتضافر هذه الظواهر والقرائن على أن نقول إن مذهب الشافعي الحرمة؟! وإن المتأخرين قد أخطئوا أم نشبع كل منها تأويلاً؟! ومتى إذن سنعمِل قاعدة: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"؟!
- كل هذه الضجة مع أنني قررتُ أنني غير مشغول بتحقيق معتمد مذهب الشافعية ولا غيرهم، ولأن طريقة الأئمة قبْل عصور التقليد والجمود وقبْل أن يحتاج المفتون والقضاة على المذاهب إلى مَن يُلزمهم بقول واحد حتى داخل المذهب (منعًا لاضطراب الفتوى والقضاء، وهي مسألة فيها نزاع بيْن أهل العلم، ولكن ليس هذا مقام تحقيقها)، وإنما الشاهد بيان الحاجة التي مِن أجلها اهتم علماء الطبقة المتوسطة في المذاهب باعتماد أقوال معينة في المذهب، ثم السبب الذي مِن أجله بالغ المتأخرون في ذلك، ولا أريد أن أستكمل قصة الغلو في التقليد وهجر الأدلة، وأن يكون تحقيق أقوال الرجال هو محور الاهتمام، بل هي المبتدأ وهي المنتهى، ثم الجمود الفقهي الذي هو النتيجة الحتمية لهذا الاستغراق في المذهب (الذي هو في الأصل وسيلة).
وقد قابل البعض هذا "الغلو" بغلو في تحريم المذهبية ومعاداة كتب المذاهب! وكان الوسط والقصد الذي به نهضت الأمة؛ التعامل مع المذاهب كوسيلة لا غاية، والإبقاء على الثراء الفقهي داخل كل مذهب، وعدم إقصاء أي قول داخل أي مذهب، بل والاستفادة مِن مدرسة الأئمة الكبار في الفقه المقارن.
وراجع ما أوردناه في المقالة عن الطبري "نقلاً عن ابن حجر، وعن ابن عبد البر، وابن تيمية، والنووي" حينما يتعرض للموازنة بيْن كل الأقوال في المسألة؛ ترى أن الاهتمام منصب في المقام الأول على الأدلة ثم على مجمل ما قاله علماء الأمة فيها مِن أقوال "حتى لا يحدث قول جديد أو لو أحدث لا يخالف القدْر الذي أجمعوا عليه مِن القول الآخر في المسألة".
- ونسبة كل قول إلى قائليه فيُقال: في المسألة كذا قول، هم الأول والثاني، وهكذا... والقول الأول دليله كذا، وقال به بعض علماء مذهب كذا، وبعض علماء مذهب كذا، مع تقديم قول الأئمة إذا علم، وهكذا. ومنهم مَن يقدِّم مواطن الاتفاق؛ فيقول: اتفقوا على كذا... واختلفوا في كذا... فمنهم مَن قال بكذا، ومنهم مَن قال بكذا، وهكذا.
وهي طريقة أسهل في الدراسة، وأقرب إلى المقصود (الموازنة بيْن الأقوال والأدلة)، وعليها عمل الأئمة الكبار كما تقدم (ومع هذا فمن يرتب الخلاف على المذاهب، ويتعرض في كل مذهب للمعتمد فيه؛ فكلها مِن باب الوسائل).
وأما إقامة المعارك مِن أجل دفاع أهل كل مذهب عن أحد الأقوال في مذهبهم لمجرد أن عالمًا أو اثنين مهما بلغ قدرهما قد رأيا أنه مذهب الإمام أو أنه حري بأن يخرَّج على أقوال الإمام أو يُقاس عليها أو يُستفاد مِن منطوقها، فإذا كانت هذه الردود قد خرجتْ ممن ينتمي إلى تلك المدارس المذهبية التي تُبنى على التقليد، والتي غالبًا ما تتلبس ببدع أخرى عقدية وعملية؛ فالأمر في ذلك واضح، والخلاف أصيل.
وأما إذا كانت قد خرجتْ ممن يرى أن التمذهب طريقة للدراسة لا للتعبد، وأن الأصل اتباع الدليل؛ فعليه أن يراجع استغراقه في الدراسة بطريقة صممت لبيئة علمية ومنهجية مختلفة.
- أشرتُ في المقالة إلى أن مَن قال بالكراهة صرف الأمر مِن الوجوب إلى الاستحباب بقرائن، ولم أناقشها تفصيليًّا.
- وقد ناقشتْ هذه الردود هذه القرائن، والتي لم تَخرج عن قرينتين:
الأولى: دليل الاقتران في حديث (عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) (رواه مسلم): فقالوا بحمل هذه العشر كلها على أنها مِن السنن المستحبة، ويكفي في رد هذا أن تعلم أن دلالة الاقتران ضعيفة، وأن الشافعية لم يعملوها هنا؛ فقالوا بوجوب الختان.
وقد أجاب أحدهم بأن الختان ثبت استحبابه بحديث الفطرة "إعمالا لقاعدته"، ثم جاء الأمر به مستقلاً؛ فوجب، ويكون الأمر فيه كان على التدرج مِن الاستحباب إلى الوجوب "ولم يَنسب القول بتدرج تشريع الختان إلى أحدٍ مِن أهل العلم"، ومع أنه لو صح في الختان لصح قي اللحية أيضًا، فقد جاء الأمر بإعفائها وذم حالقها.
القرينة الثانية: أن اللحية مِن الآداب والأمر في الآداب للاستحباب: وهذا وإن قال به مَن قال مِن الشافعية؛ إلا أنه بعيد؛ لكون إطلاق اللحية معلل بالإضافة لكونه مِن الآداب بعلة مخالفة المشركين، ومعلل أن حلقها مُثلة كما في الإجماع الذي نقله ابن حزم -رحمه الله- (وبغض النظر أيضًا عن معنى كلمة لا تجوز الواردة في حكايته للإجماع، ولكن ورد في حكايته للإجماع أنها مثلة).
ومع هذا فقد استعرضنا القول بالكراهة، وبينا حجته إجمالاً حتى يَعرف الناس الخلاف في المسألة فيعطوه قدره، مع النصيحة بمذهب الأئمة الثلاثة، بل ما نراه هو مذهب الشافعي -رحمه الله- أيضًا مِن حرمة الحلق، بل والراجح أيضًا فيما سبق بيانه أن التقصير إنما يجوز أو يشرع فيما زاد على القبضة أو ما شذ وتطاير، وهو مذهب كثير مِن الحنابلة، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كما تقدم بيانه.