الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما أكثر الأوضاع المقلوبة في حياتنا، غير أن أكثر هذه الأوضاع انقلابًا هو: العلاقة بيْن الدنيا والآخرة، فبينما يحضنا الشرع على أن نجعل الدنيا مزرعة الآخرة، وأن نكون فيها كعابري سبيل، وألا نجعلها أكبرَ الهمِّ ومبلغ العلم؛ إلا أننا نخالِف ذلك على درجاتٍ متفاوتةٍ مِن المخالفة!
ولا نبرأ نحن المنتسبين إلى الالتزام "فضلًا عن غيرنا".
وكأن هذا الوضع المقلوب بفعل تزيين الشياطين هو الوضع الأكثر شيوعًا عند عامة الخلق؛ ولذلك ذكره الله -تعالى- إخبارًا عن واقعٍ حيث قال: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:16-17)؛ فذكر الله -عز وجل- أمرين اجتمعا في الآخرة، كان يكفي واحدٌ منهما؛ ليعمل العاقل مِن أجلها؛ فكيف باجتماعهما معًا؟!
وهذا ما عبَّر عنه أحد السلف بقوله:
"لو كانت الدنيا مِن ذهبٍ يفنى، والآخرة مِن خزفٍ يبقى؛ لكان على العاقل أن يَختار الخزف الباقي على الذهب الفاني، فكيف والدنيا مِن خزفٍ يفنى، والآخرة مِن ذهبٍ يبقى؟!".
وإذا كان الحال كذلك؛ فكيف للعاقل الذي يؤمن بالآخرة أن يختار الدنيا؟!
الإجابة تأتيك في قوله -تعالى-: (كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ . وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ) (القيامة:20-21)، فالنفس تميل إلى شهواتها العاجلة، ويقل عندها أثر الآجل مهما كان عظيمًا، والشياطين يستخدمون هذا الجانب في النفس؛ فيشغلون الإنسان عن التدبر والتأمل.
والعلاج يكمن في أن يستحضر الإنسان الجنة والنار حتى كأنها رأي عين، فتصبح الآخرة عنده حاضرة كالدنيا، وحينئذٍ؛ فلن تختار نفسه إلا الآخرة.
كثير مِن الناس يجهل هذه الحقائق، والبعض يعرفها، ولكن السبيل إلى التنفيذ فيه قدرٌ مِن المشقة.
كم مِن الناس -لا سيما الملتزمين- يود لو أَعطى أمر دينه المساحة العظمى مِن عقله وتفكيره ووقته وجهده، ولكنه محاط بأنواعٍ مِن المشاغل.
وبالنسبة للطالب يجد نفسه مطالبًا بتحصيل علوم دنيوية كثيرة، وله فيها أنواع مِن الأغراض الشرعية مِن تحصيل وسيلة للكسب والمعاش الذي هو وسيلة العلم والعمل والعبادة، ومِن بر الوالدين، ومِن سد حاجات الأمة مِن هذا العلم الدنيوي الذي يدرسه.
ويحاول إخواننا أن يجمعوا بيْن ذلك وبيْن طلب العلم الشرعي، والدعوة، والعبادة، وغالبًا ما تبقى مساحة للعلوم الدنيوية هي الأكبر مِن الوقت والهمة؛ لما ذكرنا مِن أسباب.
وربما يكون لنا بعض العذر في ذلك، ولكن ما العذر عندما تأتي الإجازة؟
هل تقفز لنا اهتمامات أخرى: كاللعب والترفيه، والراحة والاستجمام؛ لتحل محل الدراسة وتحجز مكانها في المساحة الأمامية مِن المخ؟ ويبقى طلب العلم الشرعي والدعوة إلى الله في المساحة الخلفية؟!
أم أن الإيمان يدفع بالعلم الشرعي والعمل والدعوة؛ لتحتل مكانها الطبيعي ولو برهة مِن الزمن؟
هذا هو التحدي الذي نسأل الله -عز وجل- أن تأتي الإجابة عليه مِن واقعنا العملي.