كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فينادي كثير من المفكرين بعدم تسييس الدين، ويعنون بذلك في كثير من الأحيان "تقرير أن الدين يتضمن أحكامًا سياسية"، وإذا علمنا أن السياسة هي فن إدارة المجتمعات البشرية فسوف يتفرع على هذا أن نقرر أن بعض الأديان لا تتضمن إلا نصائح ومواعظ وتشريعات تعبدية، ومِن ثَمَّ فهي أديان غير مُسيَّسة، ويكون نسبة أحكام وتشريعات خاصة بنظم المجتمع إليها نوعًا من العدوان الصارخ عليها ذاتها.
إلا أنه من اليسير جدًّا أن ندرك أن هناك أديانًا "على رأسها الإسلام" تتضمن أحكامًا في تنظيم المجتمع في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والقضائية، ونفي هذه الأحكام عن الإسلام عدوان عليه، كما أن نسبة هذه الأحكام إلى الأديان الأخرى عدوان عليها.
إلا أن معنى تسييس الدين يُطلق ويراد به معنى يتفق الناس على ذمه، ولكن للأسف يكثر الناس من استعماله، وهو جعل الدين تابعًا للسياسة وخادمًا لأغراضها، سواء أكانت سياسة دولة أم حزب أم فرد، وربما صنع البعض هذا الأمر بنفسه ولنفسه، وربما صنعه له غيره، كما يصنع الكثيرون هذا الأمر لصالح الحكام والرؤساء أيًّا ما كانوا، والذين غالبًا ما يقبلون تلك الهدية بتجاهل يخفي وراءه استحسانًا بالغًا أو بإنكار ظاهري ينادي في حقيقة الحال: "هل من مزيد؟!".
وقليل مَن يعلن تبرؤه ويرفض تلك الفتاوى التي تهوي بأصحابها في النار، لا يغني أحدهم عن صاحبه شيئًا؛ إلا أن يتوب مَن أفتى ويتبرأ من أُفتي له، وربما وقع الأمر عن جهل أو تأويل، فلزم النصح والبيان إعذارًا إلى الله -عز وجل-.
أقول هذا بمناسبة فتاوى نسبت إلى بعض المنتسبين إلى العلم تصف المتظاهرين ضد "خارطة الطريق" بأنهم خوارج، والأخطر من هذا إباحة دمائهم ترتيبًا على هذا الأمر!
ورغم أن كثيرًا ممن نُسب إليه ذلك قد نفاه جملة وتفصيلاً، والبعض بيَّن أنه جرى التوفيق والمونتاج بيْن أكثر من حوار ليخرج الحوار في النهاية بصورة غير التي كان عليها، وهذا أمر طيب ممن تبرأ من هذه الفتاوى الشاذة؛ إلا أن هذا لا يمنع أن ثَمَّ مَن يقول بها، وثَم مَن يروِّج لها وينشرها.
وقد حدث هذا في عهد د."مرسي" فأنكرنا ذلك، وكتبتُ فيه مقالة أعيد نشرها الآن؛ لأبين خطورة تسييس الدين، وأن مواقف الكثير من الناس من القضايا الأخلاقية يختلف باختلاف أهوائهم، في حين نحاول جاهدين أن نحافظ على الثوابت ونطبقها على الجميع بلا هوى.
فإلى مَن يحكمون على متظاهري الإخوان أو مؤيديهم بالخوارج لمجرد تظاهرهم "وإلا فكلنا متفقون على خطورة من يحمل السلاح" إلى جميع هؤلاء أهدي تلك المقالة التي كتبتها يوم كان الرئيس "مرسي" في الحكم، وأخاطب بها الآن مَن يريدون أن يحكموا على أتباعه بذلك وإن خالفتهم في الاجتهاد.
الرد على فتوى: "قتل المعارضِين!"
يُعد اختيار الرئيس "محمد مرسي" لمنصب رئيس الجمهورية في مصر حالة جديدة على الواقع الإسلامي في أن يوجد لدينا رئيس يعلن رغبته في السعي لتطبيق الشريعة في ظل نظام دستوري قانوني، وهو ما جعل البعض يسقط أحكامًا استقاها من كتب السياسة الشرعية متغاضيًا عن الفروق بيْن ذلك النظام السياسي وبين النظام الدستوري الحالي، فإن الدستور وإن نص على عدم جواز مخالفة الشريعة فسيبقى اختلاف صلاحيات الرئيس بين النظامين، واختلاف شكل وصلاحيات المعارضة، إلى غير ذلك من الأمور...
وعدم إدراك هذه الفروق دفعت بعض الشيوخ إلى الإفتاء بتحريم التظاهر ضد الرئيس "مرسي!"؛ مما دفع الرئيس "مرسي" شخصيًّا وجماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة إلى التبرؤ من فتواه؛ وكأن البعض لم يستفد من الدرس فأفتى بجواز قتل بعض رموز "جبهة الإنقاذ!" واستدل على ذلك بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) (رواه مسلم)، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) (رواه مسلم)، وفي رواية: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أوْ يُفرِّقَ جماعتكم فَاقْتُلُوهُ) (رواه مسلم).
وقبل أن نرد على هذه الفتوى -وحتى لا نقع فيما وقع فيه صاحبها- فإننا نذكِّر أن: "الأزهر" قد قرر إحالة صاحب هذه الفتوى إلى المساءلة، وهذا يقتضي أن ننتظر ماذا سيقول فيما نسب إليه؟ وهل هو ثابت أم تم الحذف منه أو الإضافة؟! ولكننا هنا سوف نرد على هذه الفتوى على النحو الذي انتشرت به من أنها فتوى بقتل بعض رموز "جبهة الإنقاذ"؛ لأنهم يدعون إلى إسقاط النظام عملاً بالحديث المشار إليه.
ومِن المعلوم أن الفتوى هي: "إسقاط الحكم الشرعي على الواقع المساوي له"، ومِن ثَمَّ فعند التعرض لها فعلينا أن نبحث في الأمور الآتية:
1- ما حكم الشرع فيمن دعا إلى إسقاط رئيس منتخب لقصور يدعيه هو "بغض النظر: هل توافقه أم تخالفه؟"؟!
2- ثم ما حال أولئك المسئول عنهم لنتمكن من إعطائهم الحكم المناسب؟
3- فإذا كان في الأمر عقوبة شرعية ما فهل تم استيفاء شروطها وانتفاء موانعها أم لا؟
4- وإذا تقرر أن إيقاع العقوبات من اختصاص الدولة فهل من المصلحة ذكر استحقاق شخص ما لعقوبة ما على العامة أم يمنع من هذا خشية الفتنة؟
فإذا رجعنا إلى تلك الفتوى وجدنا أنها قد أخلت بذلك كله! من عدة جهات:
أولاً: معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أوْ يُفرِّقَ جماعتكم فَاقْتُلُوهُ) وقوله: (فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ): أن هذا فيه الأمر بقتال مَن يقاتل الحاكم المُمكَّن -وليس في قتل آحاد الناس وإن ظلموا وألبوا الناس على الحاكم- فهو من باب قتال المفسدين في الأرض الذين لا يندفع فسادهم إلا بذلك، قال -تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة:32)، ولهم تفصيل مكانه كتب الفقه؛ إلا أنه يكفي للدلالة على هذا قول علي -رضي الله عنه- للخوارج الذين كفروا الصحابة واستحلوا دماءهم، ومع ذلك قال علي -رضي الله عنه- لهم: "لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله -تعالى-، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال".
فدل هذا على أن قتال هؤلاء لا يكون إلا لمن بدأ هو بالقتال، وأما مَن هم أفضل منهم حالاً ولهم بعض مطالب ومظالم فالاحتياط فيهم أوجب، وفي شأنهم قال -تعالى-: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9)، فلابد هاهنا من السعي إلى إصلاح ذات البين حتى إن بدؤوا هم بالقتال.
وهذا يعني أنه لا مجال لقتل آحاد الناس بجريمة الدعوة إلى إسقاط الحاكم؛ ولو كان هذا في ظل فقه الإمامة، وما في كتب القوانين المعاصرة قريب من هذا؛ فإنها تغلظ العقوبات بشأن ممارسة الإرهاب المسلح ضد الدولة، وتقرر عقوبات أخف بشأن العنف السياسي؛ بينما تحمي كل طرق التغيير السلمي مهما تطرفت في مطالبها.
فإذا ثبت أن الحُكم الذي بُنيت عليه الفتوى ليس موافقًا لنصوص الكتاب والسنة فقد حسمت المسألة، ولكن يمكنك "من باب التنزل في المسالة" أن تبحث في باقي المسائل؛ لتعرف أنك إن سلمتَ جدلاً بصحة هذا الحكم؛ فلا يمكنك قط أن تُسلِّم بصحة هذه الفتوى.