كتبه/ إيهاب إبراهيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتعيش مصر هذه الأيام حالة مخاض عسير لبناء دولة جديدة على صعيد كل محاور وأركان الدولة، فيأمل شعبها أن تقوم العلاقة بيْن أفراده على العدالة والاحترام المتبادل، وتدعيم الحريات العامة والخاصة في إطار أخلاقي يتماشى مع دينها وأعرافها، كما يأمل شعبها البدء بنهضة حقيقية كفيلة بأن تُلحق مصر بركب الدول المتقدمة والخروج بها مِن نفق الأزمات الاقتصادية الطاحنة محققة العدالة الاجتماعية بين أفرادها، وأن تتبوأ مصر مكانتها اللائقة بها بين الدول، وتعود لمركز القيادة الإقليمي المنوط بها.
ولا شك أن أول أركان وأسس بناء الدولة: "هو الدستور"، ولكي ندرك وبشكل أعمق أهمية الدستور بالنسبة للدولة -وخصوصًا مصر في هذه المرحلة- نعرض نبذة بسيطة عن تعريف الدستور ووظائفه في هيكلة الدولة.
الدستور: كلمة الدستور أصلها فارسي، وتعني: الدفتر الذي يُجمع فيه القوانين. ويُعرَّف الدستور في الاصطلاح السياسي بعدة تعريفات تدور حول قضايا متقاربة، وتتفق على أنه القوانين والمبادئ العامة التي تحدد ملامح الدولة وهويتها، ونظامها العام، ونظام الحكم بها، كأن يكون رئاسيًّا أو برلمانيًّا أو مختلطًا.
وينظِّم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، ويرسم أطر علاقتها الخارجية، ويفصل بيْن سلطاتها: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
كما أنه يمثل المظلة العامة للأحكام والقوانين الإدارية، واللوائح العامة والخاصة بالدولة، فيجب أن تكون كل القوانين واللوائح في الدولة غير مناقضة لمبدأ من مبادئه، ويجب أن تتماشى مع روحه وسياقاته.
لعل الآن يدرك الكثير منا أهمية الدستور الكبرى في ظل هذه الصلاحيات، وربما أيضًا يظهر لنا جليًّا أسباب الجدل الهائل حول اللجنة المنوط بها وضعه، وبعض المواد به، مثل: المادة الثانية المتعلقة بالشريعة، والفصل الخامس المتعلق بصلاحيات الرئيس.
يُوضع الدستور بطرق عدة، أشهرها: يكون بتكليف هيئة أو جهة كالبرلمان تقوم بوضعه ثم يُستفتى الشعب عليه، أو بانتخاب لجنة تضعه مباشرة، وقد أُقِرت الطريقة الأولى بموجب الإعلان الدستوري المُستفتى عليه: "19-3-2011".
هذا ما يتعلق بالأمور الإجرائية الخاصة بالدستور، ولكن الأهم من ذلك هو: "مواد الدستور"، والتي تحتاج أن تكون معبِّرة عن حقيقة إرادة الأمة، بيد أن القوى السياسية تعيش الآن صراعًا محتدمًا فيما بينها لاختيار أعضاء اللجنة التأسيسية له، في ظل انقسامات واختلافات أيديولوجية بيْن التيارات الإسلامية والليبرالية، والتراشق بالاتهامات المتبادلة بين الطرفين.
ولكننا نرى وفي ضوء تعريف أهل القانون للدستور: أنه مبادئ عامة يُستقى منها روح القوانين في الدولة؛ لذا فيجب أن يكون الدستور مشتملاً على الرغبات والتوجهات العامة للمجتمع بعيدًا عن التفاصيل، فالشيطان يكمن في التفاصيل، فيجب أن يحتوي الدستور على المبادئ العامة والقيم الأساسية لأي مجتمع: كـ"الهوية"، فينص على "الهوية الإسلامية، واللغة العربية" كمكوِّن أساسي في ثقافة المجتمع، مع مراعاة الأقليات من الديانات الأخرى، والتأكيد على حرية ممارستهم لمعتقداتهم، وحماية الدولة لهم كمواطنين.
كما ينص على العدالة الاجتماعية والقانونية؛ فيجب أن تُوفـِّر الدولة الفرص العادلة والحياة الكريمة لأبنائها.
كما يؤكد على مبدأ الحرية العامة والخاصة، وحرية التعبير والإعلام، ومزاولة النشاطات السياسية والاجتماعية "وهذا كله فيما يتفق ويُراعي أخلاق ودين الدولة وثقافة شعبها"، بعيدًا عن المفاهيم الغربية لمعاني الحرية، وممارستها الخاطئة.
كما ينص على: نظام سياسي يراعي التوازن والتكامل بيْن السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويفصل بينها، ويؤكد على سيادة الدولة وانعكاس ذلك على علاقاتها الخارجية وقراراتها المصيرية.
لكننا في نفس الوقت نعتقد أن الجهة القائمة على تنفيذ مبادئ الدستور هي أهم من الدستور ومبادئه، فإن الدساتير التي تُطبق تطبيقًا حرفيًّا في العالم نادرة؛ إما لنصها على هيئات ومؤسسات غير موجودة أصلاً، أو أنها لا تقوم بالدور المنوط بها؛ إما لخلل في طبيعة دورها أو في القائمين عليها.
فقد كان الدستور السابق ينص على حفظ الحريات العامة، ولم نرَ عصرًا انتُهكت فيه الحريات العامة والخاصة كما انتهكت في هذا العصر!
إذن فليس معنى أننا أنشأنا وزارة للصحة أن الرعاية الصحية والعلاج قد وصل لكل مواطن، وليس معنى أننا أنشأنا جهازًا للمحاسبات أن الفساد قد انتهى، والمقصود أن المشكلة ليست في الدستور والقوانين بقدر ما هي في الهيئات والمؤسسات القائمة على تنفيذ ذلك.
لذا فإننا ننظر إلى الدستور كخطوة أولى على طريق البناء والاستقرار يدعمها ويقويها نظام حكم رشيد يقوم بإخلاص على تنفيذ المبادئ والقوانين المنبثقة عن هذا الدستور.