كتبه/ ياسر برهامي*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتأتي قضية الحريات في مقدمة القضايا التي يختلف فيها الإسلاميون مع الاتجاه الليبرالي في صياغة الدستور الجديد، مع أن استجلاء كل طرف لحقيقة موقف الآخر أن يضيق الخلاف أو يلغيه إذا صدقت النوايا والمقاصد.
ولذلك فإن مفهوم "الدولة الدينية" بمعناها الغربي الذي يتضمن قداسة الحاكم وعصمته، بل ألوهيته -سواء كان ذا سلطة دينية أو دنيوية- ما زال هو المسيطر على فكر كثير مِن الليبراليين عن مفهوم الدولة الإسلامية التي يريدها الإسلاميون!
والحقيقة أن الإسلام حارب هذا المفهوم عن الحاكم، وبيَّن الله -سبحانه- أنه نوع من الربوبية التي تنافي حقيقة العبودية لله وحده التي يشترك فيها جميع البشر، والتي تعني بوضوح أن السيادة لله وحده، وأن الخلق جميعًا عباده، والله -سبحانه وتعالى- قد أرسل الرسل لتحقيق هذه الغاية، وتحقيق العبودية لله، قال الله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56).
وهو -سبحانه- قد بعث هذه الأمة الإسلامية مِن رقدتها وانحطاطها؛ لتنشر التحرر من سلطان العبودية للبشر إلى حقيقة المساواة في العبودية لله وحده، كما قال ربعي بن عامر -رضي الله عنه- لرستم ملك الفرس لما سأله: "ما الذي جاء بكم؟!"، فقال ربعي -رضي الله عنه-: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
وقال -سبحانه وتعالى-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)، وقال -سبحانه- عن أهل الكتاب: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَقُلْ أَحَدُكُمُ: اسْقِ رَبَّكَ، أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: رَبِّي، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي مَوْلايَ، وَلا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ فَتَاتِي غُلامِي) (متفق عليه).
ولما سمع عمر -رضي الله عنه- مَن يكثر مِن لفظ السيادة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول له: "أنت سيدنا وابن سيدنا". قال: "السيد الله"، مع صحة لفظ السيادة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن ليس كمعنى السيادة لله -عز وجل-، فإذا كان هذا في الألفاظ؛ حماية لجناب التوحيد، وتأكيدًا لقضية أن الربوبية لله وحده؛ فكيف بحقيقة الممارسة والمعاملة؟!
بكل هذا يتأكد الفرق بين "الدولة الدينية" في المفهوم الغربي التي يتأله فيها الحاكم، وتصبح مخالفته خروجًا عن الدين، وبين المفهوم الإسلامي للدولة والحاكم فهو فرد مِن أفراد المجتمع المسلم، قد قدَّمه المجتمع؛ ليطبق النظام العام له، الذي يعني تحقيق عبودية الأمة لله مِن خلال أنظمة الحياة الإسلامية التي هي فروض الكفاية، كما تتحقق عبودية الفرد من خلال بناء شخصيته على الإسلام والإيمان والإحسان، كما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وإذا كان كثير من ممارسات الأنظمة السياسية التي انتسبت للإسلام في التاريخ القديم والحديث قد رسخت عند البعض نفس الفكرة الخاطئة عن الحاكم، إلا أن المصدر حافظ على الأصل واضحًا وضوح الشمس في نفوس المسلمين بعدم تقديس الحاكم وتأليهه وتعبيد الناس له، بل هو بشر من البشر، قابل للخطأ والصواب، يقبل نصح الأمة وتقويمها وإصلاحها له، وأمرها له بالمعروف ونهيها له عن المنكر.
وفهم الإسلاميين لهذه المسألة "خصوصًا السلفيين الصادقين في اتباعهم منهج السلف" جعلهم لا يقبلون الدوران في فلك الحاكم والتبعية له، بل مارسوا دور المعارضة الحقيقية عبر العقود الماضية، وتعرضوا لأبشع صور ودرجات الاضطهاد والتمييز ضدهم، في: التعليم، والإعلام، والقضاء، والسياسة، والاقتصاد، وكل مظاهر الحياة... حتى تعرضوا لأشد صور التعذيب، والسجن والاعتقال لسنوات عديدة دون محاكمة!
ولهذا فهم يقبلون، بل ويدعون إلى تحصيل قضية الحريات، وحق الإنسان في أن يأمن على نفسه وأهله وماله، وأن يعبِّر عن رأيه بحرية ما دام في حدود الإطار العام الذي التزم به المجتمع، وهو الذي يعبِّر عن هويته في تحقيق معنى السيادة لله وحده، وإن كانت الأمة هي التي تحدد السلطات وتنزلها على الواقع، كل ذلك في حدود الشريعة التي تمثِّل ذلك الإطار والقواعد الثابتة للمجتمع المسلم؛ ولهذا يُطالِب السلفيون بضبط هذه الحريات بقيد واحد، وهو "عدم الخروج عن النظام العام للمجتمع" الذي هو الشريعة الإسلامية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت بجريدة "الفتح" بتاريخ: الجمعة 6 جمادى الآخرة 1433هـ - 27 أبريل 2012م.