كتبه/ أحمد شكري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتعاني النخبة في مجتمعاتنا من عجزها عن توضيح رؤاها، ثم تتهم المجتمع بالضحالة الفكرية، وفي ظل تبادل الاتهامات نصل إلى حوار أشبه بحوار الطرشان! ولكي نخرج من هذه الدائرة المفرغة نوضِّح أولاً لهؤلاء النخبة أننا نتفهم وجهة نظرهم -رغم تحفظنا عليها- في التخوف من انفراد الأغلبية بكتابة الدستور.
ولنضرب لذلك مثلاً: إذا قام التجار بوضع القانون التجاري فمن غير المستبعد أن يجوروا على حق المستهلكين، وبالعكس إذا قام المستهلكون بوضع القانون التجاري فإنهم سيظلمون التجار، وإذا قامت لجنة حسب التمثيل العددي لكل فئة؛ فإن النتيجة ستكون واحدة؛ لأن المستهلكين هم الأغلبية.
وهنا يبرز الحل الليبرالي لهذا الإشكال: بأن يقوم ممثلون لكل فئة بدون اعتبار لوزنها النسبي، بمعنى أن يقوم تاجر ومستهلك بالتوافق على وضع الضوابط الحاكمة والمنظِّمة للعلاقة بينهما، ولكن ليس في هذا حل للإشكال؛ لأننا سنتساءل مَن هو التاجر الذي سيمثِّل التجار؟ وهل يجب أن يحصل على إجماع الفئة التي سيمثلها أم يكفي اختيار الأغلبية؟
ومع استحالة حصول الإجماع سنعود إلى نفس الدائرة المفرغة، وهي احتمال جور أغلبية الفئة المحددة على أقليتها، وهنا تظهر الحاجة إلى جهة أخرى غير المستهلكين والتجار لوضع القواعد الحاكمة للعلاقة بينهما، ولا بد مِن الاتفاق على الصفات الواجب توافرها في هذه الجهة.
ولعل أبسط هذه الصفات:
- العدالة المطلقة فلا تحابي أحدًا.
- الغنى التام فلا تكون لها مصلحة لدى أحد.
- العلم المحيط بحيث لا تغفل شيئًا.
- الحكمة التامة بحيث تراعي مصالح الجميع في وقت واحد.
- القبول العام بحيث لا يجد أحد غضاضة في امتثال أمرها.
- القوة الغالبة بحيث يخضع الجميع لحكمها.
ومِن الواضح استحالة توفر هذه الصفات في غير الله -تعالى-؛ فالبشر -ولو اجتمعوا- لن يحصِّلوا شيئًا مِن ذلك، لكن لما كانت الحضارة الغربية قائمة على العلمانية وفصل الدين عن الحياة، ورفض الخضوع لحكم الله؛ ابتدعوا قانونًا فوق القانون الذي تقرره الأغلبية، وليس من حق الأغلبية مخالفته، وأسموه: "الدستور"، ويتم النص فيه على حقوق الأقليات فيمنع الأغلبية من ظلمهم؛ ولذلك يتخوف الليبراليون -ومَن حذا حذوهم- مِن كتابة الأغلبية للدستور حتى يحافظوا على حقوق الأقليات.
وهنا يجب أن يرسل "التيار الإسلامي" رسالة تطمين هامة جدًا لكل هؤلاء... مفادها: أن الضمان الحقيقي لحقوق الأقليات: سواء الدينية، أو العرقية، أو الفكرية، أو السياسية، هو عمق الالتزام بالشريعة الإسلامية؛ لأنها هي القائمة على العدل المطلق، والإنصاف التام، والمصلحة الكاملة.
ولا ينبغي أن ننظر للشريعة بنظرة عوراء، بمعنى: أن ننظر إلى المنهيات فقط. فالشريعة ستمنع مِن كذا... وكذا... فقط، بل ينبغي أن ننظر إلى الجانب الآخر، وهو: "حماية الأقليات"؛ فليس مِن حق الأغلبية، ولا الأقلية، ولا إجماع البشر جميعًا أن يُحرِّموا ما أحل الله.
ففي ظل تطبيق الشريعة: إذا قامت الأغلبية بتحريم أو تجريم نوع معين من المعاملات أو السلوكيات الداخلة في إطار الحرية الشخصية، والتي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية؛ فلن يرضى بذلك جموع الشعب الذي اختار الإسلاميين، ولن يُمرر هذا التجريم في ظل دستور ينص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع؛ ولذلك فلن يَخاف مِن كتابة الأغلبية للدستور في حالة البرلمان المصري إلا العازم على مخالفة الشريعة؛ لأن الأغلبية تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وليس فرض رأيها الشخصي.
وهنا تبرز إشكالية أخرى يطرحها المتخوفون من الإسلاميين، وهي: أنهم يتخوفون مِن فهم النص، ومِن الآليات البشرية الوضع لتطبيق الشريعة.
ونقول: إن هذا التخوف لا يزول أبدًا، فكما أن هناك احتمالية لإساءة فهم وتطبيق نصوص الشريعة، فكذلك هناك احتمالية بنفس الدرجة أو أكبر لإساءة فهم الدستور الوضعي، وأن تغيره الأغلبية كيفما يحلو لها؛ ولذلك ليس علاج هذا التخوف بإقصاء الأغلبية الإسلامية، ومنعها من حقها في كتابة الدستور، ولكن العلاج يكون بتوضيح قواعد فهم نصوص الشريعة كما قررها علماء الشريعة.
ولا بد هنا مِن الانتباه لنوعين من الأحكام الشرعية:
الأول: الأحكام المجمع عليها، وهذه لا يجوز أبدًا الخروج عنها بأي حال من الأحوال.
الثاني: الأحكام المختلف فيها، وهذه نرجع فيها إلى الضوابط الشرعية لفهم النصوص؛ حتى يتسنى لنا تحديد الأرجح فيها، وليس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عنا ببعيد ليوضح لنا ما قد يكون غامضًا منها؛ ولذلك فالضمان الوحيد لحفظ حقوق الأقليات هو عمق الامتثال للشريعة الإسلامية، فهي التي تضمن الخير والسعادة للجميع.
والله مِن وراء القصد.