كتبه/ أحمد الفيشاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي، وفي ظل الاحتلال الغربي حينئذ لجزء كبير من أهم بلاد الإسلام تكوَّنت لدى الغرب رؤى وبدائل متعددة لاحتواء المسلمين، وتخفيف حدة العداء التي تعرقل مصالحهم المرتبطة بالشرق الإسلامي، وكانت من تلك البدائل هي: نشر النصرانية بين المسلمين أو على الأقل تشكيكهم في دينهم ونزع ثقتهم به.
ولذلك دعم الاحتلال آنذاك الإرساليات التبشيرية ومكَّنها من إنشاء المدارس، والمستشفيات، ودور النشر والمكتبات، والكنائس والأديرة، والجمعيات، وغير ذلك من العمران والمشاريع التي ما زالت آثارها قائمة بعواصم بلاد الإسلام ومدنه، بل إن كثيرًا منها ما زال يباشر مهامه التبشيرية حتى بعد رحيل الاستعمار!
وفي ظل هذه الأجواء الكئيبة والحقبة الشائكة من تاريخ المسلمين ينزل القاهرة داعية مسلم شاب في بداية الثلاثينيات من عمره قادمًا من بلاد الشام يبحث عن ميدان أوسع للدعوة والإصلاح والنهوض بالأمة؛ فإذا به يصطدم بذلك الواقع المرير الذي يكون سببًا لتأليفه كتابنا هذا، ومِن قبل ذلك يكون سببًا في توجيه مسار حياته، إنه الشيخ: "محمد رشيد رضا".
يقول -رحمه الله- في كتابه هذا: "كنت مارًا بشارع محمد علي بالقاهرة وأنا قريب عهد بالهجرة إليها فرأيت رجلاً واقفًا على باب المدرسة الإنكليزية يدعو كل من مر أمامه: تعالوا اسمعوا كلام الله، ولما خصني بالدعوة أجبته ودخلت؛ فإذا بناس على مقاعد من الخشب في رحبة المدرسة، فلما كثر الجمع قام أحد دعاة النصرانية فألقى كلمة عن الفداء والخلاص ونحو ذلك، مما تضمنته العقيدة الصليبية.
وبعد فراغه وحثه الناس على الأخذ بما قاله والإيمان به ودعواه أن لا خلاص لهم بدونه، قمتُ فقلتُ: إذا كنتم قد دعوتمونا إلى هذا المكان لتبلغونا هذه الدعوة شفقة علينا ورحمة بنا فأذنوا لي أن أبيِّن لكم موقعها من نفسي، فأذن لي القس بالكلام فوقفت في موقف الخطابة، وأوردت عليهم بعض ما يترتب على هذه الدعوة من العقائد الباطلة والقضايا المتناقضة التي سأبينها هنا -أي في هذا الكتاب-، وطلبت الجواب عنها فكان الجواب أن هذا المكان خاص بالوعظ والكرازة دون الجدال والمناظرة؛ فإن كنت تريد الجدل والمناظرة فموضعهما المكتبة الإنكليزية، فلما سمع المسلمون الحاضرون هذا الجواب صاحوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وانصرفوا" انتهى.
إن أهمية هذا الكتاب لا ترجع إلى بيان تاريخ التنصير وتزامنه مع تاريخ الاستعمار فحسب، بل وترجع بوجه آخر لبيان المدخل النظري الذي اعتمده التنصير منذ ذلك العهد وإلى يومنا هذا؛ للتغرير بجهال المسلمين، إنه مبدأ الخلاص من الخطيئة الذاتية أو ما يسمونه الخطيئة الأصلية.
ذلك المبدأ الذي اعتمده قديمًا بعض فلاسفة النصارى؛ لتبرير التجسد الإلهي، والإيهام لا بجوازه فقط، بل وبحتميته أيضًا!
ومع ظهور الإسلام زادت حاجة النصارى للفلسفة وعلم الكلام كقشة يتعلق بها الغريق المغلوب في حجته ودفاعه؛ فبرزت فلسفة الخطيئة الأصلية والخلاص الإلهي حتى كادت أن تسامي في أهميتها عند مجادلي النصرانية وعلمائها عقيدة التجسد والتثليث!
فلما نشطت الدعوات التنصيرية -بإيعاز ودعم من الاحتلال الغربي المسمى قديمًا بالاستعمار-؛ تبنت تلك الدعوات مبدأ الخلاص من الخطيئة الذاتية كمدخل للتثليث والأقانيم والتجسد الإلهي، فإن المسلم مهما قل تدينه وتعليمه يجد نفرة شديدة من عقيدة التثليث وتأليه المسيح؛ فلذلك اهتم المنصرون بعقيدة الخطيئة الأصلية والخلاص الإلهي؛ لتمويه عقائدهم الشركية الوثنية وصبغها بنوع من التبريرات الفلسفية والأسطورية، لا سيما إذا راعى المنصرون في عرض تلك الأسطورة الفلسفية الوثنية الإشكالات النفسية والعقلية لمن يحاولون تنصيره.
يقول الشيخ رشيد رضا -رحمه الله-: "نرى دعاة التنصير المنبثين في بلادنا قد جعلوا قاعدة دعوتهم وأساسها عقيدة صلب المسيح فداء عن البشر، فهذه العقيدة عندهم هي أصل الدين وأساسه، والتثليث يليها في الترتيب؛ لأن أصل الدين وأساسه هو الذي يُدعى إليه أولاً ويجعل ما عداه تابعًا له" اهـ.
ومَن تأمل اليوم مسالك المنصرين ومداخلهم -حتى الكنائس الشرقية التي خوَّل إليها الغرب قدرًا كبيرًا من مهام التنصير-؛ وجد ذلك بأوضح ما يكون حتى إنك لتظن -بادي الأمر- أن معتنقو التثليث إنما اعتنقوه بناءً على عقيدة الخطيئة الموروثة، مع أن واقع القوم وتواريخهم على خلاف ذلك؛ فعامة النصارى المثلثين لا يحسنون فلسفة الخلاص، ولا ارتباطها الوثيق -أو الذي جعلوه وثيقًا- بعقيدة التجسد والتثليث!
أما الشواهد التاريخية: فإن أول مَن وضع تصورًا فلسفيًا كاملاً لعقيدة الخلاص من الخطيئة الموروثة هو القديس "أوغسطين"، وذلك في أوائل القرن الخامس الميلادي أي: بعد استقرار عقيدة التجسد والتثليث في القرن الرابع الميلادي عبر أهم مَجمعين من مجامع النصارى: "مجمع نيقية 325م - ومجمع القسطنطينية 381م"، ولم يبين هذان المجمعان عقيدة الخلاص من الخطيئة الأصلية إلا بإشارة عابرة: "الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل وتجسد وصلب... ".
فالتلازم الوثيق بين التجسد وفلسفة الخلاص نمى واكتمل بعد تقرير التجسد والتثليث، وإنما يسعى المنصرون دائمًا للربط بينهما؛ للإيهام بحتمية التجسد الإلهي -كما يقولون!-.
ولذلك وجد في القديم والحديث فِرَق من النصارى المثلثين لا يقرون بمبدأ التلازم بين الخطيئة الأصلية والتجسد الإلهي، بل ومنهم مَن لا يقر بمبدأ الخطيئة الأصلية أصلاً، وإن كان جمهورهم وفرقهم المشهورة قد استقروا على خلاف ذلك.
لقد كانت محاولة أوغسطين -ومَن جاء بعده مِن فلاسفة النصرانية- هو إيجاد تبرير مناسب لتلك المنزلة الوضيعة التي جعلوا فيها الرب -سبحانه وتعالى- متحدًا بجسد بشري يناله من عوارض البشرية وطبائعها ما ينال سائر البشر، بل ويناله مِن أخس عباده من الشتم والبصق والضرب والصلب ما يتنزه عنه مقام الألوهية والربوبية!
واستخدم هؤلاء المدافعون الفلسفات الوثنية القديمة؛ لتمرير عقائد التجسد والتثليث، والدفاع عنها، فكان حالهم كـ"المستجير بالرمضاء من النار". وفي هذه الظلال نعرض لأهم النقاط والملامح الأساسية التي تعرض لها المؤلف في كتابه.
يتألف الكتاب مِن مقدمة وستة فصول:
يتكلم في المقدمة عن سبب تأليفه للكتاب.
ويتكلم في الفصل الأول عن تفسير آيات القران التي وردت في نفي الصلب.
ويتكلم في الفصل الثاني باختصار عن عقيدة النصارى في الصلب والكفارة والفداء.
ويتكلم في الفصل الثالث -باختصار أيضًا- عن نقد عقيدة النصارى في الصلب والكفارة والفداء.
ويتكلم في الفصل الرابع بشيء من التفصيل عن عقيدة الجزاء والخلاص في الإسلام.
ويتكلم في الفصل الخامس عن الجذور الوثنية لعقيدة الصلب والفداء.
ويتكلم في الفصل السادس بنوع من التفصيل عن رد شبهات النصارى على مَن ينكرون حادثة الصلب، وهو من أطول فصول الكتاب.
ونعرض سريعًا مقتطفات هامة من فصول الكتاب لا سيما فيما يتعلق بعقيدة الكفارة والخلاص في الإسلام والنصرانية.
يقول في المقدمة: "ظهر الإسلام فنسخ نوره كل ظلام، ودخل الناس فيه أفواجًا؛ فكان لهم سراجًا وهَّاجًا حتى كان حكمهم فوق كل حكم، وعلمهم أوسع من كل علم.
ثم إنَّ أهله هجروا كتابه، وجفوا سنته؛ فدالت الدولة لأعدائهم حتى إذا ما أزالوا ملكهم وغلبوهم فيما بقي على أمرهم طمعوا في إرجاعهم عن دينهم؛ فتألفت البعثات الدينية والعلمية في الممالك الكبرى لأجل ذلك، وأرصدت لها الملايين من الجنيهات للنفقة عليه، فهم يجتهدون في تشكيك المسلمين في دينهم أولاً، وفي جذبهم إلى النصرانية ثانيًا. يبثون ذلك في المدارس والمستشفيات وينشرونه في الكتب والرسائل والمجلات، ويخطبون به في الأندية والجمعيات، ومن ورائهم الدول النصرانية تحميهم ببأسها، وتمدهم بنفوذها.
هذا التقصير العام مِن عامة المسلمين -حكامهم ومحكوميهم- قد أوجب علينا أن نؤلف جماعة الدعوة والإرشاد؛ لتربية أمة تدعو إلى دينها على الوجه الذي تتضاءل دونه شبهات دعاة النصرانية، وتظهِر به مزاياه الصورية والمعنوية.
وكنا قد عنينا بالقيام بهذا الواجب في "المنار"، فلا تكاد تبلغنا شبهة من الشبهات التي ينفثها دعاة النصرانية في المسلمين إلا ونردها عليهم، ونظهر بطلانها لهم ولغيرهم.
ولا نقتصر على الدفاع كما هو شأن الضعيف مع القوي، بل نهاجمهم كما يهاجموننا، ونعتقد أن حقنا يغلب باطلهم، وإن كانوا أكثر منا مالاً، وأقوى دولاً ونفوذًا. ولما كانت عقيدة الصلب والفداء هي أساس دينهم توسعنا في بيان بطلانها.
وإننا لنرجو أن يكون هذا العدوان من دعاة النصرانية الذي يريدون به محو الإسلام من الأرض هو الذي يدعو المسلمين إلى إعلاء شأنه في جميع الأرض" اهـ بتصرف يسير.
وقال -رحمه الله- في الفصل الثاني ملخصًا عقيدة الخطيئة الأصلية والخلاص الصليبي: "نرى دعاة النصارى المنبثين في بلادنا قد جعلوا قاعدة دعوتهم وأساسها عقيدة صلب المسيح فداء عن البشر؛ فهذه العقيدة عندهم هي أصل الدين وأساسه والتثليث يليها.
وتقرير هذه العقيدة كما سمعناها من بعض دعاة البروتستانت في بعض المجامع العامة التي يعقدونها للدعوة في مدارسهم وفي المجالس الخاصة التي اتفق لنا حضورها مع بعضهم هي أن آدم -عليه السلام- لما عصى الله -تعالى- بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مستحقين العقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي، ثم إن جميع ذريته جاءوا خطاة مذنبين فكانوا مستحقين للعقاب أيضًا بذنوبهم كما أنهم مستحقون له بذنب أبيهم الذي هو الأصل لذنوبهم.
ولما كان الله متصفًا بالعدل والرحمة جميعًا طرأ عليه مشكل منذ عصى آدم -عليه السلام- وهو أنه إذا عاقبه هو ذريته كان ذلك منافيًا لرحمته فلا يكون رحيمًا! وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيًا لعدله فلا يكون عادلاً!
فكأنه منذ عصى آدم -عليه السلام- كان يفكر في وسيلة يجمع بها بين العدل والرحمة! فلم يهتد إلى ذلك سبيلاً إلا منذ ألف وتسع مئة واثنتى عشرة سنة بالنسبة إلى سنتنا هذه، وذلك بأن يحل ابنه -تعالى- في بطن امرأة من ذرية آدم -عليه السلام-، ويتحد بجنين في رحمها ويولد منها فيكون ولدها إنسانًا كاملاً من حيث هو ابنها وإلهًا كاملاً من حيث هو ابن الله، ويكون معصومًا من جميع معاصي بني آدم.
ثم بعد أن يعيش زمنًا معهم يأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويتلذذ كما يتلذذون، ويتألم كما يتألمون؛ يسخر أعداءه لقتله أفظع قتلة، وهي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي! فيحتمل اللعن والصلب لأجل فداء البشر وخلاصهم من خطاياهـم (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات:180)" اهـ.
وقال -رحمه الله- في الفصل الثالث ناقدًا لعقيدة الخلاص الصليبي تحت عنوان: "ما يرد على عقيدة الصلب والفداء":
- لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن أن خالق العالم بكل شيء عليم، وفي كل صنعه حكيم؛ فإنها تستلزم الجهل والبداء على الله -عز وجل-، كأنه حين خلق آدم -عليه السلام- ما كان يعلم ما سيكون من أمره، وحين عصى آدم -عليه السلام- ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه حتى اهتدى لذلك بعد ألوف من السنين مرت كان فيها جاهـلاً حيران، لا يدري كيف يجمع بين تينك الصفتين مِن صفاته، وكيف يخرج من ورطة التناقض بينهما!
ولا عجب أن يقبل النصارى ذلك وهم ينقلون في أول كتاب مِن كتبهم الدينية (سفر التكوين6:6) هذه الجملة: "فندم الرب أنه خلق الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه!". تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
- تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم القدير الحكيم قد أراد شيئًا بعد التفكر فيه ألوفًا من السنين فلم يتم له ذلك الشيء، بل عجز عنه؛ ذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا من العذاب بوقوع هذا الصلب. فإنهم يقولون: إن خلاص الناس متوقف على إيمانهم بهذه القصة، وكثير من الناس لم يؤمن بها. فإذا عذبهم الله -تعالى- في الآخرة ولم يدخلهم ملكوته -كما تدعي ذلك النصارى- لا يكون رحيمًا على "قاعدة دعاة الصليب"، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة؟!
- يلزم من هذه القصة ما هو أعظم من عجز الخالق -تعالى وتقدس- عن إتمام الجمع بين العدل والرحمة في حق بني آدم، وهو حصول ما هو ضد العدل والرحمة في حق المسيح -عليه السلام-، فإنه عذبه من حيث هو بشر وهو لا يستحق العذاب؛ لأنه لم يذنب ذنبًا قط، وهو باتفاقهم لم يرث الخطية من آدم -عليه السلام-، فتعذيبه بالصلب وغيره لا يصدر عن عادل ولا عن رحيم بالأحرى!
- يلزم من تلك القصة أن يكون أهلها إباحيين؛ فإن مَن يؤمن بهذه القصة عندهم يكون ناجيًا من عذاب الآخرة مهما كانت أخلاقه وأعماله، وناهيك بهذا مفسدًا للبشر.
- ما رأينا أحدًا من العقلاء يقول: "إن عفو السيد عن عبده الذي يعصيه ينافي العدل والكمال، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل" اهـ.
والشيخ -رحمه الله- لم يكن غرضه هنا استقصاء الرد على هذه القصة، ولذلك اختصر الرد عليها جدًا بينما فصَّل بعض الشيء في الفصل الذي يليه -الفصل الرابع- عن الخلاص في الإسلام، وبضدها تتبين الأشياء.
فقال -رحمه الله- في الفصل الرابع تحت عنوان: "الجزاء والخلاص في الإسلام": "نذكر هنا عقيدة الإسلام في هذه المسألة بالإيجاز؛ لأن شرحها قد تقدم مرارًا كثيرة -يعني في المنار- فنقول: إن مدار نجاة الإنسان من العقاب وفوزه بالنعيم والسعادة الأبدية إنما هو على تزكية نفسه وتطهيرها من العقائد الوثنية الباطلة، والأخلاق الفاسدة، ومدار الهلاك على ضد ذلك؛ قال -تعالى-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7-10)، فركب الله -تعالى- في الإنسان قوة فطرية تمكنه من إرادة الخير والشر، ومن أعمال التقوى والخيرات ومن أعمال الفجور والشرور، والإنسان هو الذي يزكي نفسه بهذه أو يدسيها بتلك، فمن صحت عقيدته وحسن عمله صلحت نفسه وزكت وكان أهلاً للنعيم في العالم الأخروي، ومَن كانت عقيدته خرافية باطلة، وأخلاقه وأعماله سيئة فسدت نفسه وخبثت، وكان هو الذي تكلف تدسيتها ودهورتها إلى هاوية الجحيم. فالجزاء في الإسلام أثر لازم ومباشر لعمل الإنسان نفسه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
وقد شرحنا هذا المعنى بالتفصيل في مواضع متعددة عند تفسير قوله -تعالى-: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (النساء:123-124)، وعند قوله -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) (النساء:31)، وعند قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء:48)، ونحو ذلك من الآيات.
فمن أخلص لله في تزكية نفسه وإصلاحها بالإيمان والعمل الصالح بقدر استطاعته كان مقبولاً عند الله ولا يؤاخذه -تعالى- بما لا يستطيع، ومَن لم يكن كذلك غضب الله عليه، وكان محرومًا مِن رضوانه الأكبر.
وقد عُلم مما ذكرناه مِن تزكية النفس وتدسيتها بعمل الإنسان وكسبه الاختياري أن الجزاء في الآخرة أثر لازم للتزكية والتدسية، مترتب عليهما ترتب السبب على المسبب والمعلول على العلة، بفضل الله وحكمته ومقتضى سنته في خلقه، والله يضاعف لمن يشاء، ويزيدهم من فضله.
أليست هذه التعاليم الإسلامية هي التي ترفع قدر الإنسان وتعلي همته، وتحفزه لطلب الكمال بإيمانه وإخلاصه وأعماله الصالحة؟!
أليست أفضل وأنفع مِن الاتكال على تلك القصة الصليبية المأثور مثلها عن خرافات الوثنيين التي لا يصدقها عقل مستقل، ولا يطمئن بها قلب سليم، المخالِفة لسنن الفطرة ونظام الخلقة، التي أفسدت العقول والأخلاق في الممالك الصليبية منذ شاعت فيها" اهـ.
ويقول -رحمه الله- في الفصل الخامس تحت عنوان: "عقيدة الصلب والفداء وثنية": "اعترف أمامنا كثير مِن الذين قالوا إنهم نصارى بأن كلاً مِن هذه العقيدة وعقيدة التثليث لا تعقل، وأن العمدة في إثباتهما عندهم النقل عن كتبهم المقدسة، فلما كانت تلك الكتب ثابتة عندهم وجب أن يقبلوا جميع ما فيها سواء وافق العقل أم خالفه! ويقول بعضهم: إن كل دين من الأديان فيه عقائد وأخبار يجزم العقل باستحالتها، ولكنها تؤخذ بالتسليم.
ونحن نقول: إنه ليس في الإسلام شيء يحكم العقل باستحالته، وإنما فيه أخبار عن عالم الغيب لا يستقل العقل بمعرفتها؛ لعدم الاطلاع على ذلك العالم، ولكنها كلها مِن الممكنات؛ أخبر بها الوحي فصدقناه، فالإسلام لا يكلف أحدًا أن يأخذ بالمحال.
وأما نقلهم عن كتبهم فسيأتي مناقشتهم فيها -يعني في الفصل السادس والأخير-، وهو على كل حال معارض بنقل الوثنيين في كتبهم مثل تلك العقائد والأخبار، فهذه عقيدة وثنية محضة سرت إلى النصارى مِن الوثنيين، كما بينه علماء أوروبا الأحرار، ومؤرخوهم وعلماء العاديات والآثار.
قال دوان في كتابه "خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الأخرى" ما ترجمته بالتلخيص: إن تصور الخلاص بتقديم بعض الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جدًا عند الهنود الوثنيين، وغيرهم...
وذكر شواهد على ذلك منها قوله: يعتقد الهنود أن كرشنا المولود البكر من الإله فشنوا تحنن على أهل الأرض فأتاهم وخلصهم بتقديم نفسه ذبيحة عنهم.
وقال مورينولميس: إن الهنود الوثنيين يعتقدون بالخطيئة الأصلية، ومما يدل على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسلاتهم: إني مذنب ومرتكب الخطيئة وطبيعتي شريرة، وحملتني أمي بالإثم، فخلصني يا ذا العين الحندوقية، يا مخلص الخاطئين من الآثام والذنوب.
وقال القس جورج كوكس في كتابه "الديانات القديمة" في سياق كلامه عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهـوتًا؛ لأنه قدم نفسه ذبيحة.
أما ما يُروى عن البوذيين في بوذا فهو أكثر انطباقًا على ما يرويه النصارى عن المسيح -عليه السلام- مِن جميع الوجوه، حتى إنهم ليسمونه المسيح، والمولود الوحيد ومخلص العالم، ويقولون: إنه إنسان كامل وإله كامل تجسد بالناسوت، وإنه قدَّم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر ويخلصهم منها!
ومَن أراد المقابلة بين إله النصارى وآلهة الوثنيين القدامى في الشرق والغرب فليرجع إلى كتاب: "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية" لمحمد طاهر أفندي التنير، وقد لخصه من أربعين مصنفًا ونيف من الكتب الإنكليزية في التاريخ والأديان، والآثار والعاديات والرحلات.
فهل يتصور مسلم هداه الله بالإسلام إلى التوحيد الخالص والدين القيم؛ دين العقل والفطرة المبني على تكريم نوع الإنسان أن يستحب العمى على الهدى فيرضى لنفسه التخبط في ظلمات هذه العقائد الوثنية؟!" اهـ بتصرف يسير.
أما الفصل السادس: فيناقش فيه مرويات الصلب والقيامة، وبيان آثار الغلط والتحريف التي وقع فيها أصحاب تلك المرويات المتهافتة المتناقضة، وأن التدقيق في تلك المرويات ونقدها يؤيد نفي الصلب والقتل، ووقوع هؤلاء الرواة في الكذب أو الوهم والغلط.
ويختم هذا الفصل بعنوان جانبي: "الجمع بين الإسلام والنصرانية": ينقد فيه المحاولات التي قام بها بعض النصارى للتقريب بين الإسلام والنصرانية، وتأويل آيات نفي الصلب في ضوء روايات الأناجيل، وأن المقصود أنهم وإن صلبوه وحاولوا قتله إلا أنه لم يمت على الصليب، وإنما حصل له إغماءة توهم بها الشهود أنه قد مات!
يقول -رحمه الله-: "وممن ولع بالجمع بين النصرانية البوليسية التي تؤخذ من الكتب التي يسمونها العهد الجديد وبين الإسلام قسيس اسمه "خريستوفورس جباره" كان برتبة أرشمندريت، وكاد يكون مطرانًا إلا أنه خلع ثوب الكهنوت، وطفق يدعو إلى التأليف والجمع بين الإسلام والنصرانية، ويقول بعدم التنافي بينهما! ويؤلف الكتب في ذلك: يثبت فيها التوحيد ونبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، مع صحة الأناجيل وتطبيقها على القرآن.
وكان الأستاذ الإمام -يعني شيخه القديم محمد عبده- يحسن الظن به، ويقول: إن دعوته لا تخلو من فائدة وتمهيد للتأليف بين الناس، وظهور دين الله الحق في جميع البلاد.
والحق أن الإسلام هو دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ودين المسيح -عليه السلام- ودين جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ولكن المحال هو الجمع بين دين القرآن الذي لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلفه وبين الديانة البوليسية المبنية على أن الثلاثة واحد حقيقة والواحد ثلاثة حقيقة! وعلى عقيدة الصلب والفداء الوثنية!
وكيف يمكن الجمع بين التوحيد والتثليث، وبين عقيدة نجاة الإنسان وسعادته بعلمه وعمله، وعقيدة نجاته بإيمانه بلعن ربه لنفسه وتعذيبه إياها؛ فداء لعبيده -وإن لم يتم له ذلك كما مر بيانه-؟!
ألا إن القرآن هو الجامع المؤلف لقلوب العباد، ولكن ترك دعوته المنتمون إليه فكيف يستجيب له المخالف؟! فدين التوحيد والتأليف بين الخلق لا يقوم بدعوته أحد، ولا يبذل له أحد المال لهداية الناس! بينما دين التشريك والتفريق تُبذل له القناطير المقنطرة، ويستأجر لدعوته الألوف من المجادلين والعاملين، وتحميهم الدول القوية بالمدافع والأساطيل!
على أننا لا نيأس من روح الله، فكما وفق الله لتأليف جماعة الدعوة والإرشاد فهو -سبحانه- الذي يوفق لمساعدتها مَن أراد، والله خلقنا من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة" اهـ بتصرف يسير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.