السؤال:
كنت استمعت قديمًا لشرائط شرح الحاكمية، وشرائط السلفية ومناهج الإصلاح للشيخ عبد المنعم الشحات. وقد قال نصًا: "إن مَن ينتهجون الحل البرلماني يضعون أنفسهم في مشكلة عقائدية خطيرة؛ إذ أنه لا يمكن تمرير الشريعة إلا من تحت الديمقراطية فتكون -أي الأخيرة- هي الأعلى".
وأرى الآن نقيض ما تعلمته من شرائطكم من إنشاء الأحزاب، والترشح في الانتخابات تحت مظلة الديمقراطية! وقد تعلمت منكم أن مبدأ الغاية تبرر الوسيلة هو مبدأ يخالف الإسلام، وأنه لا بد للوصول للغاية التي نرجوها بوسيلة مشروعة لا تخالف الشرع والعقيدة. فهل هذا يعتبر رضا بالديمقراطية وقبول لها؟
أرجو من فضيلتكم توضيح وشرح هذه النقطة تفصيلاً إن كان قد التبس علي الفهم.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالديمقراطية التي قَبِلنا آلياتها هي كما صرح به برنامج الحزب منضبطة بضوابط الشريعة، نعني أننا لا نقبل أن يكون الحكم لغير الله.
ولكننا نقبل مسألة الانتخابات على ما فيها من بعض المخالفات إلا أنها أقل مفسدة من ترك المجال للعلمانيين والليبراليين ومن يوافقونهم ممن ينتسبون إلى العمل الإسلامي.
ونقبل مراقبة البرلمان للحاكم، وإمكانية عزله ومنع استبداده، ونقبل قيام المؤسسات في الدولة على مبدأ الشورى الذي يتم من خلال الانتخاب الذي يلزم شرعًا أن يكون ممن هو أهل له، وسنسعى لتحقيق ذلك.
فنحن لم نقبل "الفكرة الفلسفية للديمقراطية في أن الشعب هو مصدر السلطة التشريعية"، بل الحكم لله، صرحنا بذلك مرات ومرات.. فكيف ينسب لنا الموافقة على ضد ذلك؟!
فليس ما حدث هو من مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، بل هو من مبدأ "موازنة الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد" بميزان الشريعة.
والنظم البشرية يمكن أن ننتفع بما يوافق الشرع منها، فالنظم الإدارية التي كانت عند الفرس "الديوان" عمل بها عمر -رضي الله عنه-؛ لتنظيم مصالح المسلمين، وما كان من تنازلات من نحو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية حين ترك "بسم الله الرحمن الرحيم" إلى "باسمك اللهم"، ومِن ترك "محمد رسول الله" إلى "محمد بن عبد الله" مع كونه قالها بلسانه: "إني رسول الله وإن كذبتموني"، وكذلك قبول أن يرد مَن جاءه مسلمًا إلى المشركين، وهذه مفسدة حقيقية؛ خصوصًا مع الفتنة في دينه، لكن لو تجردت عن دفع مفسدة أعظم، وجلب مصلحة أكبر، فلما كان فيها جلب مصلحة الفتح المبين، ودفع مفسدة انتهاك حرمات الله وحرمات المستضعفين في مكة، وجلب مصلحة تعظيم حرمات الله كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري)، وقال الله -تعالى-: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الفتح:25)، كانت هذه المفسدة مغمورة إلى جنب المصلحة، وكذلك قَبِل النبي -صلى الله عليه وسلم- في شروط الصلح أن لا يرد المشركون مَن جاءهم مِن عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يتضمن مفسدة عدم إقامة حد الردة على المرتد، ومع ذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) (رواه مسلم).
فنحن -بحمد الله- لم نخالف العقيدة لا في مسألة الحكم، ولا في مسألة الولاء والبراء، وهل سمعتَ أحدًا قبْلنا تكلم على الملأ في مسألة كفر النصارى، مع كوننا نعطيهم حقوقهم التي شرعها الله؟!
وهل كان الناس قبل تصريحنا يقولون شيئًا عن بطلان ملتهم أم كانوا يوهمون الناس، بل ويصرحون بأنهم مؤمنون, وأنهم يدخلون الجنة على ما هم عليه؟! حتى لبسوا على الناس دينهم، وصار كثير من المسلمين يعتقد إيمانهم وصحة ملتهم؛ فكيف نُتهم بعد ذلك بأننا نقبل من الديمقراطية ما فيها من كفر في أصل فكرتها؟!
لا تحاكمونا إلى مصطلحات القوم التي وضعوها، ونحن قد فصلنا فيها ما قبلناه وما احتملناه لأجل مصلحة أعظم، مثل: "تصويت المرأة وترشيحها"، وما رددناه من فكرتها الفلسفية.
ولنا أسوة في شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- في مصطلح الفناء الذي وضعه واضعوه دالاً على عقيدة خربة كفرية هي عقيدة وحدة الوجود، وكثر استعماله فيها عندهم، ففصله شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم إلى ثلاثة أقسام: قسم يُرد لما فيه من الكفر وهو الفناء عن وجود السوى "أي من سوى الله"، وقسم يحتمل وليس بفضيلة، بل هو نقص هو الفناء عن شهود السوى، وحمل عليه كلام من عده من الصادقين من الصوفية، وقسم ذكره الشيخان ولم يسبقا إليه؛ ليجذبا قطاعًا كبيرًا من القوم إلى السنة، وهو الفناء عن إرادة السوى "أي عن إرادة من سوى الله"، وهو الإخلاص.
فالمصطلحات البشرية يُقبل فيها مثل هذا التقسيم حتى لو طالب أهله بأن نقبله كما هو، فنقول: لا يلزمنا أن نأخذه كله، أو نرفضه كله، بل نأخذ منه ما يوافق الشرع أو ما يحتمله، ونرد ما خالف الشرع. والله المستعان.