كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ -وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ- خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ-؛ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ. اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ-؛ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ ارْضَنِي بِهِ). ويسمي حاجته، وفي رواية (ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ) (رواه البخاري).
مجمل الوصية(1):
لما كان أهل الجاهلية إذا أرادوا أمرًا لجأوا إلى زجر الطير، والاستقسام بالأزلام والشرك(2)، شرع الله لنا على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الاستخارة بهذا الدعاء العظيم، الذي فيه أساس التوحيد، والاعتماد على الله -سبحانه وتعالى-، والإقرار بوجوده، وصفاته، وكماله، وقدرته، وإرادته، وربوبيته، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، والتبري من الحول والقوة، واعتراف العبد بعجزه عن معرفة مصلحة نفسه، وأن الأمور بيد الله الذي فطره.
حاجتنا إلى الاستخارة في كل أمورنا:
- يتعرض المرء في حياته لكثير من الأمور الغيبية النتائج، ويقدم على أمور مجهولة العواقب، لا يدري خيرها من شرها، ولا نفعها من ضرها، أيقدم على هذا العمل أم لا، ومن أهمية الاستخارة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمهم ذلك في الكبير والصغير؛ قال جابر -رضي الله عنه-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن".
- الإنسان لا يدري: هل في هذا الأمر خير له أم لا، فالغيب من خصائص الرب العلام(3): قال -تعالى- لأفضل الناس عقلًا وفهمًا: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 188).
- وتتأكد الاستخارة مع الأجواء التي تواكب القرارات المصيرية (اختلاف الآراء - ترتب الآثار العظيمة على القرار): فكم من قرارات تميل إليها النفس بدون الاستخارة، ولا تدري بأن الخير في غيرها؛ قال -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، وقال -تعالى-: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19). وقال عمر بن الخطاب: "ما أبالي على أي حال أصبحت على ما أحب أو على ما أكره، وذلك لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره" (أخرجه ابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة).
أدب المسلم عند الاستخارة:
أيقن بأن الله -تعالى- سيوفقك لما هو خير، واجمع قلبك أثناء الدعاء وتدبره وافهم معانيه العظيمة، وارضَ بالمقدور؛ لأنه الخير الذي طلبته: روى من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ" (رواه أحمد بسند ضعيف). وقال مكحول: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "إن الرجل ليستخير الله -تبارك وتعالى- فيخار له، فيسخط على ربه -عز وجل- فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خير له" (التفسير الوسيط).
- أيقِن أن في الاستخارة وقاية من الندم والتردد: قال ابن الحاج -رحمه الله-: "فعلى هذا فمن ترك الاستخارة والاستشارة يخاف عليه من التعب فيما أخذ بسبيله لدخوله في الأشياء بنفسه دون الامتثال للسنة المطهرة، وما أحكمته في ذلك؛ إذ إنها لا تستعمل في شيء إلا عمته البركات، ولا تترك من شيء إلا حصل فيه ضد ذلك. نسأل الله السلامة" (المدخل لابن الحاج).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان شيخنا -رضي الله عنه- يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية" (مدارج السالكين لابن القيم).
تنبيهات من فقه الاستخارة:
1- إذا احتجت إلى الاستخارة في وقت نهي، فاصبر حتى تحل الصلاة، فإن كان الأمر الذي تستخير له يفوت؛ فصلِّ في وقت النهي واستخر. وإذا منع مانع من الصلاة -كالحيض للمرأة- فلتنتظر حتى يزول المانع، فإن كان الأمر الذي تستخير له يفوت وضروري، فاستخر بالدعاء دون الصلاة.
2- إذا كنت لا تحفظ دعاء الاستخارة فاقرأه من ورقة أو كتاب، والأولى أن تحفظه.
3- يجوز أن تجعل دعاء الاستخارة في السجود الأخير، أو قبل السلام من الصلاة -أي: بعد التشهد-، أو بعد السلام من الصلاة وهو أقربها.
4- إذا استخرت فأقدم على ما أردتَ فعله واستمر فيه، ولا تنتظر رؤيا في المنام أو شيء من ذلك. ويجوز تكرير الاستخارة ثلاثًا.
استحسان مشاورة الصالحين وأهل الخبرة(4):
- يحسن بعد الاستخارة استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة: قال -تعالى-: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره" (نقله عنه ابن القيم في الوابل الصيب).
وقال النووي -رحمه الله-: "والاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خلق ضعيفًا، فقد تشكل عليه الأمور، وقد يتردد فيها فماذا يصنع؟" (رياض الصالحين).
خاتمة:
- وصية عظيمة ما أحوجنا إليها؛ لا سيما في زمان كثرت فيه الآراء والفتن والمغريات، وكل يدعو إلى وجهته بالترغيب والترهيب بالوسائل المختلفة مما يجعل كثيرًا من الناس في حيرة عند الاختيار: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ...).
جعلنا الله وإياكم من المتوكلين عليه، المفوضين له أمرهم وشأنهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستخارة لغة: طلب الخيرة في الشيء. يقال: استخر الله يخر لك. واصطلاحًا: طلب الاختيار. أي طلب صرف الهمة لما هو المختار عند الله والأولى، بالصلاة أو الدعاء الوارد في الاستخارة (فتح الباري في شرح صحيح البخاري).
(2) بعض المسلمين يقلدون المشركين في ذلك، بالنظر في الأبراج والحظ، أو بالتخيير بين أوراق أو زهور أو نحوها من باب (أفعل - لا أفعل)، والبعض الآخر يتطير أو يتشاءم بأيام أو أشخاص، أو أحوال معينة؛ فأبطل الإسلام ذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ) (رواه البخاري). وشرع لنا صلاة الاستخارة.
(3) قال العلماء: كثرة فعل العبد للاستخارة علامة على قوة توحيده؛ لأنه يظهر فقره وضعفه وحاجته لربه في كل صغير وكبير.
(4) اختلف العلماء هل المقدم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيح ما رجَّحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في شرح رياض الصالحين أن الاستخارة تقدم أولًا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ... إِلَى آخِرِهِ). وقال البهوتي -رحمه الله-: "ولا يكون وقت الاستخارة عازمًا على الأمر الذي يستخير فيه أو على عدمه: فإنه خيانة في التوكل. ثم يستشير، فإذا ظهرت المصلحة في شيء فعله" (كشاف القناع).