كتبه/ سيد عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الحمد لله العزيز المعز المذل مالك الملك، والصلاة والسلام على عبده محمد وآله وصحبه وبعد،
فالحمد لله الحمد لله الحمد لله. والله أكبر الله أكبر الله أكبر.
سجد المسلمون في مصر وغيرها شكرًا لله -تعالى- على رحيل الظالم وعصابته الذين أفسدوا دين ودنيا الناس.
والمتأمل بعين البصيرة يرى كيف يدبر الله -عز وجل- الأمور؛ فيرفع أقوامًا ويخفض آخرين، قال الله -تعالى-: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:26).
فالأمر كله لله -عز وجل- لا يخرج عنه مؤمن أو كافر، ولكن الظالمين يغرهم إمهال الله لهم: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ . الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:6-7)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ). ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (متفق عليه).
فكم طغى هؤلاء الظالمون فحاربوا المؤمنين وشوهوا صورتهم، وكم طعنوا في شريعة الله -عز وجل-، وسمحوا للمنافقين والعلمانيين بإضلال الناس بحجة الحرية والديمقراطية، وكيف والوا أعداء الأم وساعدوهم ضد أبناء ملتهم، وما حصار غزة عن الأذهان ببعيد.
فها هي دول الكفر تتبرأ مِن الطواغيت كعادة الشياطين، قال الله -تعالى-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر:16)، وكم خذلوا المسلمين والمسلمات وأسلموهن إلى الكفار ليردوهن عن الإسلام، ناهيك عن سفك الدماء وانتهاك الأعراض وسرقة أموال وأرض البلاد، وتسميم الشعب بالأسمدة المسرطنة والقمح الفاسد، قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ . وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ . وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ . الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ . فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:6-14).
عجائب القدر:
سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن القدر، فقال: "القدر هو قدرة الرحمن".
نعم والله.. كم اجتهد هؤلاء الطغاة في وأد الحركة الإسلامية ما يقرب من ثلاثين عامًا كمموا فيها الأفواه والأقلام، وأطلقوا أيدي زبانيتهم لسجن وتعذيب المؤمنين، وحاولوا إشغال شباب الأمة بوسائل الإفساد؛ فأبى الله -عز وجل- بقدرته إلا أن يجعل هذا الشباب هو شرارة الثورة التي تقضي على حكم الفاسدين، فكما ربى فرعون موسى -عليه السلام- في بيته فإذا به يكون سبب نهايته وربك على كل شيء قدير.
ترشيد الثورة:
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (رواه البخاري ومسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (متفق عليه).
لقد تعمد شباب المتظاهرون عدم إظهار أي شعار ديني في أثناء الثورة، والتمس البعض لهم العذر تجنبًا لاستئصال مبكر، أو استعداء لليهود أو الأمريكان، ولكن لا يصح أبدًا أن يظل هذا الوضع باقيًا فنضحي بعقيدتنا مِن أجل مكاسب أرضية، فلا عدل إلا في ظل الإسلام وشريعته.
فليحذر إخواننا مِن المساس بهذا الأصل، وهو أن مصر دولة مسلمة دينها الرسمي هو الإسلام، ومصدر تشريعها هو الشريعة الإسلامية، بل ينبغي علينا جميعًا التعاون على تفعيل ذلك؛ لأن هذا هو النجاة الحقيقية مِن الفتن والابتلاءات، والضمان الحقيقي لغير المسلمين بالعيش الآمن في ظل الإسلام، وقد رأى الناس ذلك في الأيام الماضية.
أما رفع شعارات الهلال مع الصليب أو الوحدة الوطنية أو المواطنة، وإلغاء خانة الديانة مِن البطاقة.. فهذه دعاوى خبيثة تهدف إلى محو الهوية الإسلامية لمصر؛ فانتبهوا عباد الله ولا تتنازلوا عن مبادئ دينكم.
ماذا بعد الثورة؟
يحتاج الشعب المصري إلى إعادة صياغة للشخصية بعد سنوات مِن النفاق والرشوة والمحسوبية؛ فحان وقت الأمانة والصدق والرحمة والتراحم، والبذل والعطاء.
وإذا كانت خسائر مصر المادية بمئات المليارات فعودة الشعب المصري إلى حظيرة الإيمان والعمل الصالح مكسب لا يُقدَّر بثمن، أما إن بقينا كما نحن ينهش بعضنا لحم بعض، ونسرق أقوات بعض فسنتحول إلى خمس وثمانين مليون طاغوت لا طاغوت واحد!
فلابد مِن عودة إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أفرادًا وجماعات، حكامًا ومحكومين، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41)، فالتقدم التقني والاقتصادي والسياسي شيء جميل، ولكن في ظل العبودية لله -تعالى- عبودية للفرد وعبودية للأمة.
عبودية الفرد المسلم:
ونعني بها الاستقامة في العقيدة والعبادة والأخلاق والآداب والمعاملات، فلا يصرف المسلم العبادة لغير الله، ولا يتحاكم إلا إلى شرع الله، ويوالي الله ورسوله والمؤمنين، ويعادي الكفر وأهله، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويقيم جميع واجبات الدين، يأكل الحلال ويتجنب الحرام، يبر والديه ويصل رحمه، ويحسن إلى جيرانه، يقول الصدق ويؤدي الأمانات، ويتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يبتدع، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163).
عبودية الأمة الإسلامية:
ونقصد بها القيام بفروض الكفايات التي وكلت بها الأمة لإقامة الدين الإسلامي، وسياسة الدنيا به، سواء في نظام الحكم والسياسة، قال الله -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65)، والاقتصاد: قال الله -تعالى-: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة:275)، والاجتماع والإعلام والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله -تعالى-، فهذه المجالات وغيرها لابد من تولية الأمناء الأكفاء للقيام بها؛ لنشر الإسلام في ربوع الدنيا: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).
وأخيرًا: فلا يَنسِبن أحد الفضل لنفسه، بل الفضل لله -تعالى- وليس لمن جنى الثمرة أن ينسى من بذر وسقى وتعاهد بالرعاية، فكم ضحى المسلمون لا سيما أبناء الصحوة الإسلامية مِن أجل التغيير الحقيقي؛ لكي تكون مصر دولة الإسلام والعدل، ولكن لله -عز وجل- حِكَم في أن لا يتم هذا الأمر مباشرة؛ لأننا والناس معنا لم نتغير التغير المنشود، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
ولكنها رحمة -إن شاء الله- وانفراجة في الاتجاه الصحيح بشرط أن نُرشِّد هذه الثورة، ولا نجعلها علمانية خبيثة؛ فيذوق المسلمون منها الويلات كما حدث بعد ثورة 1919م، والتي طعنت عقيدة الإسلام في مقتل، ونزعت حجاب العفة عن المرأة المسلمة.
فالله نسأل أن يهدينا إلى أرشد السبل، وأن يوفـِّق المسلمين مِن أبناء الجيش وأبناء الثورة وأبناء الصحوة إلى ما فيه خير الدين والدنيا لمصرنا الحبيبة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.