كتبه/ سعيد عبد العظيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد بدأت أحداث تونس بإشعال الشاب الجامعي "محمد بو عزيزي" النار في جسده ليموت ضحية البحث عن عمل، فهو يحمل مؤهلاً جامعيًا، ويعمل تاجرًا متجولاً، وقد أضرم النار في جسده احتجاجًا على مصادرة عربته التي يستخدمها لبيع الخضر والفواكه.
وكانت هذه هي الشرارة التي أججت النيران في "تونس"؛ فخرجت التظاهرات هنا وهناك، ورفضوا الرضوخ لقوات الأمن وتهديدات الرئيس "زين العابدين بن علي"، وقد قيل إن زوجته وعائلتها هم الذين وضعوا حجر الأساس في سقوط نظامه، وانتهت الأحداث بهروبها، ثم تبعها زوجها الرئيس، وقد استمرت رحلة هروبه نحو ست ساعات في الجو انتهت بالهبوط ليلة الجمعة في مطار جدة، ورحَّبت المملكة العربية السعودية باستضافته وأسرته بعد رفض فرنسا!
وقام الجيش في تونس باعتقال المئات من قيادات الأمن بتهمة المشاركة في أعمال السطو والتخريب، وتتابعت الأحداث حيث انتقل المشهد إلى الأردن والجزائر.. والبقية تأتي، فالاعتصامات والاعتقالات صارت حدثًا يوميًا يُنذر بخطر، وهناك دلالات لابد مِن الوقوف عندها بنوع من التأمل والتدبر؛ فمهما كانت الظروف والأحوال لابد من صبر مع الأخذ بأسباب الإصلاح والتغيير وفق المنهج النبوي، ولا يجوز بحال من الأحوال قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
أولاً: شريعة الله عدل كلها، ومصلحة كلها، ورحمة كلها، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).
فالرب -جل وعلا- أرحم بعبده من الأم بولدها، أما النظم الوضعية والقوانين الطاغوتية فلا يُنتظر من ورائها إلا كل شر وظلم وضياع، والأمثلة أكثر من أن تُحصى، تجدها هنا وهناك، وتلمس الفرق الواسع بين ما كنا عليه أثناء تطبيق الشريعة، وما آلت الأحوال إليه في ظل نظم مستوردة: اشتراكية ورأسمالية وديمقراطية وعلمانية.
لقد كان عمر -رضي الله عنه- يقول: "لو عثرت شاة بوادي الفرات لسُئل عنها عمر: لِمَ لَمْ تُمهد لها الطريق يوم القيامة"، وكان يرفع ثوبه وهو خليفة المسلمين وينام تحت الشجرة، فيقول مَن يبحث عنه عندما يجده على هذا الحال: "عدلت فأمنت فنمت يا عمر"، ويمر على راعي الغنم فيقول له: "يا راعي"، فيجيبه: "نعم يا راعيها"، فيقول له عمر: "مررت بواد هو أخصب من واديك"!
فالحكم أمانة ومغرم، ولكن عندما ضاعت الديانة نظر البعض إلى الرياسة على أنها مغنم، وقد كانت الدولة الإسلامية تكفل رعاياها جميعًا عند الوصول إلى سن الزمانة والانقطاع عن العمل والكسب، تعطيهم قدر كفاية المسكن والمأكل والمشرب والملبس، وكانت الزكوات والصدقات ومعاني الأخوة الإيمانية كافية في قيام الأغنياء بالفقراء، واستتباب الأمن وصور الرخاء.
ثانيًا: الخلافة موضوعة لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، وبؤسًا لمن باع دينه بدنيا لا بقاء لها ولا وفاء، والبؤس أشد لمن باع دينه بدنيا غيره، وكلنا يقين أنه لا صلاح ولا إصلاح إلا بالرجوع لدين الله وتطبيق شرعه -سبحانه- في كل ناحية من نواحي الحياة، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أخلاقية، تعلقت بالحياة الخاصة أو العامة؛ فالمسلم هو أكثر الخلق حبًا لوطنه ونفعًا له وحرصًا عليه، بعيدًا عن الادعاء الكاذب الذي يروِّج له الديمقراطيون والعلمانيون والملاحدة.
الدين لا يُغيِّب الوعي؛ بل يوقظه وينيره، أما الكفر والذنوب والمعاصي فهي تطمس البصر والبصيرة، قال -تعالى-: (وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء:72)، وقال -سبحانه-: (فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، وقال -تعالى-: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك:22)، وقال -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52).
يبتهج العلمانيون والديمقراطيون بثورة الجياع، والتظاهرات لرفع الأجور، بينما لا يعيرون دين ربهم اهتمامًا ولا التفاتًا، ولو رفع إنسان صوته بتطبيق شرع الله -وهو منبع الخيرات والبركات- لاعتبروه يُكدِّر الأمن، ويعبث بالسلام الاجتماعي!
فالثورة عندهم لا تكون إلا من أجل البطون والفروج، وحالهم -في الجملة- ليس لله فيه نصيب، غابت عنهم الحقائق، وإلا فلا قيمة للدنيا مع خسران الدين، ولا قيمة لفرعون وقارون بجوار أهل الصُّفة مِن المسلمين الذين كانوا يَسكنون مؤخرة المسجد، فنحن قوم نرفض الظلم والفساد في جميع أشكاله، وننشد عمارة الدنيا على منهاج النبوة، ونعلم أن الدنيا ممتدة زمانًا ومكانًا، زمانًا لأبد الآبدين، ومكانًا لجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر:39).
ثالثاً: لا تشير وسائل الإعلام -سامحها الله- مِن قريب أو مِن بعيد إلى أن "زين العابدين بن علي" جعل من تونس قطعة من أوروبا في الشر والفساد، فقد استورد منهم أسوأ ما فيهم؛ استورد الكفر والضلال؛ فمنع الحجاب، وترصَّد من يصلي الفجر في المسجد، وجعل الصلاة في المسجد القريب من المنزل وبالبطاقة، وساوى المرأة بالرجل في الميراث، ومنع التعدد.
أي صار حربًا على إسلامه ودينه، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وكان بمثابة تلميذ نجيب لأستاذه ومعلمه "بورقيبة"، والذي تنادى يومًا: "لابد وأن نجعل المرأة رسولاً لمبادئنا التحررية، ونخلصها من قيود الدين!"، وكان "ابن علي" وزيرًا للداخلية يومها.
وَاهِمٌ مَن يظن أن شره وفساده في الرشوة والمحسوبية، والاستيلاء على المليارات، والقمع والتعذيب؛ فالانحراف عن دين الله سبب كل دمار وهلاك، وتمكينه لامرأته وعائلتها من التسلط على البلاد والعباد شر آخر، و(لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً) (رواه البخاري).
نسي العلمانيون في وسائل الإعلام ذلك كله، وركَّزوا على حالة الجوع، فصلوا بين المرض وأعراضه، ولم يُحسنوا تقديم الأهم على المهم، وكان الواجب أن ينطقوا مِن خلال ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادوا تشخيص الداء ووصف الدواء؛ حتى لا نكون ممن يفسر الماء بعد العسر بالماء، أو كمن يعالج الداء بداء آخر، فلقد رحل "ابن علي"، ونخشى أن يكون الطابور الذي يخلفه طويلاً وعلى شاكلته، وقد رباه على عينه كما تربى هو على يد "بورقيبة".
فإذا أجاز العلمانيون الثورة بسبب الجوع؛ فهل أجازوا مثل ذلك أو حتى تكلموا بحرف يوم رأوا الكفر والضلال والصد عن سبيل الله، وقهر المحجبات والملتحين، وتطبيق شرائع الظلم والفساد، أم أن الحرية عندهم هي حرية الرقص والغناء والتبرج والاختلاط؟!
يقبلون تسلط الشيوعيين على البلاد والعباد، ويرفضون أشد الرفض مَن يطالب بتطبيق شرع الله، فالدولة عندهم مدنية، والسيادة لقانون البشر الوضعي، والدين لابد وأن ينزوي في الكهوف، والمساجد لا علاقة لها بدنيا!
يريدون دنيا على هواهم، ووفق أمزجتهم، الأمر الذي يدمر الحاضر والمستقبل، ويحكي حالة التناقض المريب الذي يعيشه كل من انسلخ عن دين الله.
رابعًا: أكدت الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي أنها تتابع بانشغال الأحداث الجارية في تونس البلد المؤسس للمنظمة، وذكرت المنظمة في بيان لها أنها تعتبر هذه الأحداث شأنًا تونسيًا داخليًا، وأنها تؤكد تضامنها مع الشعب التونسي، وتهيب بكل التونسيين العمل على الحفاظ على الأمن والاستقرار، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وصيانة مكتسباتهم، وأعربت منظمة المؤتمر الإسلامي عن أملها في أن تتجاوز تونس هذه الأحداث عبر تضامن شعبها ووحدته، وتطلعاته إلى إرساء الديمقراطية والحكم الرشيد وفقًا لأنظمتها الدستورية والقانونية!
لو قيل هذا البيان أشبه بالـ"مانيفستو" الشيوعي لما أخطأنا، ولو كتبه ديمقراطي أو ليبرالي فلا غرابة، والعجب كل العجب أن ينسب البيان لمنظمة المؤتمر الإسلامي! فما علاقة الإسلام بالتطلعات الديمقراطية، والأنظمة الدستورية والقانونية التونسية؟!
والحال لا يخفى على أحد.
وما هي صورة الحكم الرشيد؟!
لو قالوا: نقصد به الشريعة الإسلامية؛ لقلنا لهم كما قال الأمام أحمد -رحمه الله-: "إذا تكلم العالم تقية والجاهل يجهل؛ فمتى يتبين الناس الحق؟!".
فلِمَ التورية والتعريض؟! وإلا فلو قال الشيوعي: الحكم الرشيد في تطبيق الشيوعية، وقال الديمقراطي: الحكم الرشيد في الدولة المدنية؛ فهذا رأى كل صاحب عقيدة، والديمقراطية دين عند أهلها، ووثن يُعبد من دون الله.
كان الواجب على منظمة المؤتمر الإسلامي أن توضح أن المخرج من الفتنة في التزام شرع الله في الدستور والقانون، فهذا هو دواء الداء، (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (آل عمران:19)، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وما خان أمين قط؛ ولكن اؤتمن غير أمين فخان، والديانة هي أعظم أمانة، وإبلاغ الحق للخلق مهمة الأنبياء والمرسلين ومَن تابعهم بإحسان إلى يوم الدين.
خامسًا: ورد بجريدة المصري اليوم يوم الأحد 12 من صفر 1432 هجرية تصريحات غاية في الغرابة؛ ففي أسفل الصفحة الأولى كتبوا يقولون: "علماء الأزهر: خلع الرئيس التونسي جائز شرعًا، وإذا استشرى الفساد وجب الخروج على الحاكم!".
ماذا يصنع مَن اقتصر على العناوين الكبيرة؟ فهل سيطبق هذا العنوان على كل من تشابه مع الرئيس التونسي، والشرع لا يفرق بين المتساويين، ولا يساوي بين المختلفين؟!
ولماذا لم يصفوا علماء الأزهر بالتطرف والتشدد ومناصرة الإرهاب؟! أم أن هذه التصريحات قاصرة على تونس؛ لأن الفساد استشرى فيها وحدها؛ ولذلك وجب الخروج على الحاكم؟!
يقولون: "لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين"! وهذا بالإضافة إلى أنه أقصر طريق إلى الكفر، ومع ذلك لا يستطيع مخلوق أن يفصل هذا الفصل المريب، والدليل على ذلك التصريحات المذكورة، ورضا جريدة "المصري اليوم" الليبرالية بها قمة التناقض؛ عندما يقبل الناس بعض الأحكام لموافقتها لهواهم، ويرفضون البعض الآخر، وكلها خرجت من مشكاة واحدة، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85).
شأنهم كشأن المنافقين، يعبدون الله على حرف: (وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (النور:49).
لقد تقمَّص أصحاب الجريدة دور الإرهابيين هنا! صاروا يؤيدون ما يسمونه هم بالفكر الظلامي الرجعي المتخلف، وهكذا الهوى.. يعمي ويصم!
ماذا يقول أصحاب الطاعة العمياء لولاة الأمور عندما يقرؤون تصريح الدكتور "عبد المعطي بيومي" في نفس الصفحة: "إن قول المولى -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59) لا يعني الطاعة المطلقة للحاكم وأولي الأمر؛ وإنما هذه الطاعة مقيدة بعدم مخالفة تعاليم وأوامر المولى -عز وجل-؛ استنادًا للقاعدة الشرعية: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"؟!
وأضاف: "عدم تنفيذ الحاكم وعوده في برنامجه الانتخابي يبيح للرعية الخروج عليه وعدم الالتزام بطاعته"! وعلامات التعجب هذه من عندي، وإلا فالبرنامج قد ينطوي على مخالفات شرعية، "وإذا استشرى الفساد وأصبح ظاهرًا أو مخالفًا لأحكام الشريعة؛ وجب الخروج على الحاكم".
وقال الدكتور محمد رأفت عثمان عضو مجمع البحوث الإسلامية، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا: "إن مبدأ طاعة ولى الأمر في الشريعة الإسلامية ليس مطلقًا؛ بل تحكمه ضوابط وقواعد عامة، منها: عدم الخروج على أحكام الشريعة".
وأكد عثمان أن خلع الرئيس التونسي "زين العابدين بن علي" تم بطريقة أقرب إلى الشرعية، وجائز شرعًا؛ إذ لم يتم استخدام العنف في المظاهرات إلا مِن الأمن.
وذكرت الدكتورة "آمنة نصير" أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر: "أن طاعة ولي الأمر محددة بضوابط، وليست مطلقة، وترتبط بتوفير ولي الأمر سبل الحياة الكريمة وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع".
ولا خلاف بين العلماء على عزل الحاكم إذا أتى كفرًا بواحًا عندنا من الله -تعالى- فيه برهان (*)، وهو واجبٌ طالما وُجدت المقدرة على عزله وتحققت المصلحة بذلك، وإلا فيسقط الوجوب عند العجز، ومن باب اختيار أخف المضرتين بدفع أعلاهما، ولا ريب أن الأحداث الساخنة في تونس دفعت الأساتذة لتصريحات واسعة تحتمل المزيد من الضبط مثل: "إذا استشرى الفساد وأصبح ظاهرًا.. وجب الخروج"، ومثل: "توفير ولي الأمر سبل الحياة الكريمة وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية"!
من الخطورة بمكان أن تقهر السياسة الدين، وتنقلب الموازين وتنفلت المعايير، وفي حديث عبادة ابن الصامت -رضي الله عنه- قال: "دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ. قَالَ: (إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ)" (متفق عليه)، وفي رواية في الصحيحين: "وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ".
وأهمس في أذن الأساتذة الأفاضل: لماذا تأخرت هذه التصريحات حتى ظهرت الثورة في تونس؟! ولماذا لم ينطقوا بها عندما انحرفت تونس عن منهج وشريعة ربها؟!
فقد كان في مقدور منظمة المؤتمر الإسلامي أن توضح أن المخرج من الفتنة في الالتزام بشرع الله، فلا يلتفت إلى تطلعات الشعب حتى إن كان يتطلع إلى كفر فسوف نطبق عليهم الإسلام، فالموضوع ليس بديمقراطية، ولا حكم أغلبية، فقد تكون الشعوب جاهلة لا تعرف مصلحتها.
سادسًا: التعبيرات في هذه الأوقات يجب أن تكون منضبطة بالكتاب والسنة، فعبارة مثل قول أبي القاسم الشابي: "إذا الشعب يومًا أراد الحيـاة فلابد أن يستجيب القدر"، فهو رجل مات شابًا يُقال أنه فجر الثورة التونسية! لا يُمكن أن تقبل منه هذه العبارة، وهذا كلام لا يقال، ولابد من أدب؛ فالقدر نافذ، والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره إيمان واجب، والقدر هو سر الله -عز وجل- في خلقه، لم يطَّلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمُّق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، ومن سأل: "لِمَ فعل؟" فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين، فالله -سبحانه وتعالى- (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء:23).
سابعًا: هذه هي نهاية الطغاة والطواغيت، فللظالم قاتل لا يموت، فأين الاتعاظ والاعتبار؟!
لقد عاش "زين العابدين بن علي" بالطول والعرض يعربد، والإعلانات مدفوعة الأجر تسبقه، وتصوير الرخاء الذي تعيشه البلاد والعباد، ثم استفاق على كابوس مزعج؛ فسارع بالهرب ولم يجد إلا السعودية بعد أن لفظته فرنسا!
وهكذا تصنع أمريكا مع عملائها! تعاملهم كما يُعامِل الشيطان الساحرَ، يظل يستخدمه فإذا أدى الدور المنوط به لفظه الشيطان، ومسح بكرامته الأرض على الرغم من أنه وليه، فالعميل الذي هو عدو دينه وحرب على إسلامه يكون أشبه بقطعة الإسفنج التي تتشرب الوساخات؛ فإذا امتلأت قذف بها في سلة المهملات ومزبلة التاريخ غير مأسوف عليها.
ونتمنى لـ"زين العابدين بن علي" أن يكون له من اسمه حظ ونصيب، وأن يسارع هو وأهله بالتوبة إلى الله، ورد الحقوق والمظالم لأهلها، قال -تعالى-: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ) (الأنفال:38)، وإن كان قد خسر الملك والسلطان والجاه؛ فليس له أن يخسر دينه وربه وآخرته، فالبر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديَّان لا ينام، واعمل ما شئت فكما تدين تدان.
ويبقى الدرس البليغ لكل الطغاة والطواغيت عساهم يتوبون، وإلى الله يرجعون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) وإذا ترك الحكمَ بالشريعة، وضَيَّعَ مقاصدَ الإمامة، ولم يَقُدْ الناسَ بكتاب الله، ولم يَسُس الدنيا بالدين؛ انعزلَ ووجب خلعُه -بالشروط السابقة-، سواءٌ حُكِمَ على عَينه بالكفر أم لا؛ ألا ترى أنه إذا فَقَد بصرَه أو جُنَّ جنونًا مُطبِقًا دائمًا انعزلَ كذلك حتى لو كان مسلمًا عدلاً! إذ العبرة بتحقيق مقاصد الإمامة وسياسةِ الدنيا بالدين.