كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمَنْ يَقبل مَنْ..؟ هذه هي النقطة الأساسية في حوار استعراض القوى والاستقواء علينا الذي تستبد به قوى مختلفة في العالم الغربي.
إنهم يزعمون أننا لا نقبل بالتعددية، لذا؛ فنحن متقوقعون على ذواتنا، ولا نستطيع أن نَفهَمهم.. والأدلة على ذلك أننا لا نذوب فيهم، ولا نندمج بالقدر الكافي في ثقافتهم؛ لا سيما مَن يقيم بينهم مِن المسلمين.
ومن أكبر الرؤوس السياسية إلى كتاب "الصحف" يرددون ذلك.. وحتى هذا الـ"سلمان رشدي" يقول في صحيفة "التايمز" البريطانية: "إن تفسيرًا أشمل وأكثر انفتاحًا للقرآن سيؤدي لعلاقات أفضل، ويقضي على عزلة المجتمع الإسلامي، ويواجه أيديولوجية الجهاد التي أدت لتفجيرات لندن"، ويضيف: "إن النظر إلى "القرآن" بوصف تعاليمه صالحة لكل زمن يضع الإسلام والمسلمين في سجن حديدي جامد، وأنه من الأفضل اعتباره وثيقة تاريخية -"لاحظ هنا أن هذا النكرة سبق أن أسماه في روايته: آيات شيطانية..! تبًا له"-.
سيظل "القرآن" -رغم أنوفهم- هو دستورنا وهادينا في كل زمان ومكان؛ لأنه كلمة الله -تعالى- للبشرية، ولأنه الدين الحق الذي لا يجوز لأتباعه الحيد عنه، ولأن نصوصه تملك مرونة الاستمرار والتكيف مع المتغيرات.
إنه قطار يركبه المسلم لا يحق له أن يغير مساره، ولا أن يعبث بنصوصه، وهي -ولله الحمد- نصوص محكمة لا يأتيها الباطل، رعت العدل والحق والإنصاف.. ولا أظن أنهم تدبروا فيه آيات مثل قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90).
فكل عدل وإحسان يأمر به، وكل فحشاء ومنكر ينهى عنه.. أفلا يمكن تطبيق ذلك على جميع أحوال البشر؟!
ومثله آيات كريمات لم تتكحل أعينهم بالتدبر فيها كقوله -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء:58).
وغير ذلك كثير لا تتسع تلك العجالة لاستقصائه، لكن القوم يخلطون الأوراق، ويدفنون رؤوسهم في الرمال.. يخلطون بين كونهم يستمرءون الاعتداء علينا، ثم لما يتململ بعضنا -على غير إجماعنا- فيقابل الاعتداء بمثله؛ فإنهم يحملون الأمة جميعًا نقمتهم على بعض المتحمسين من الأمة.
كلهم يرددون نفس التفاهات، وبنفس الجرأة وكأنهم أصحاب حقوق وليسوا معتدين! أكالي حقوق الشعوب، ولا مستكبرين يريدون فرض ثقافتهم ورؤاهم وحدها على غيرهم، فأين التعددية إذن؟!
نتساءل بدورنا: أين القبول بالتعددية و"إنجلترا" -وكثير من دول "أوروبا"- تريد فرض خطب "الجمعة" باللغة الإنجليزية، وتريد منع الدعاة غير الناطقين بها؟! هذا ولو كانوا يخطبون في عرب ويشرحون لهم دينهم، ما هذا التسلط؟!
يأتي داعية عربي -أو بأي لغة كانت-؛ ليزور الدولة أو ليقيم فيها ويوجه دعوته للناطقين بلغته فيواجَه برفض السلطات أن يتحدث بغير لغتهم، وذلك بالطبع؛ ليتسنى لهم الاطلاع على ما يطرحه وما يمارسه من عبادات وشعائر، وهو نوع آخر من التسلط على الأفكار، ومخالفة لحقوق الإنسان! فأي اضطهاد للتعددية يمثله هذا السلوك المتسلط؟!
ونتساءل أيضًا:
أين القبول بالتعددية في اضطهاد الفرنسيين للحجاب الإسلامي؟!
وأين القبول بالتعددية في عدم قبول "تركيا" في المجتمع الأوروبي ككيان إسلامي داخل "أوروبا"؟!
إن التعددية سلاح ذو حدين.. أن تقبل بوجودي كما أقبل بوجودك، وأن تمنحني الحرية كما أتركها لك.. وهي منضبطة عندنا بما لا يخالف ديننا، وهذا من أبسط حقوقنا.
لقد عاشت دول وحضارات وديانات بين المسلمين على مر العصور؛ فلم نفرض عليهم عقائدنا، ولم نجبرهم على لغتنا، ولم نطرد من استجار بنا أو لجأ لأرضنا.
وكما يُقال: "رمتني بدائها وانسلت"، فإنه ليس نحن الذين لا نقبل التعددية فهي موجودة بقدر الله -تعالى-، بل هم يحاولون فرضها علينا وفقًا لطريقتهم ومخالفة لمنهجنا، ثم لما نرفضها يعيبون ذلك علينا، عجبا لأمرهم!
فهل نحن حقًا الذين لا نقبل بالتعددية أم الغرب هو –الآن- الذي يسعى إلى فرض ثقافته وهو ما ينافي مبادئه التي يعلنها ويبشر بها؟
هو الذي يستغل فرصة الأحداث الحالية والوقائع الجارية؛ ليعيد رسم الخريطة الفكرية والثقافية للعالم وفقًا لرؤاه، وتبعًا لهواه.. فهو صاحب سياسة: "مَنْ ليس معنا؛ فهو علينا". وهو صاحب بدعة منع المحجبات من الحجاب، ومنع الخطب باللغة العربية، وهلم جرًّا..
وقد حمل التاريخ لنا دروسًا في التعددية الإسلامية والقدرة على قبول الآخر شريطة أن لا ينتهك حدًّا شرعيًّا، وهذا أبسط الحقوق، وقد استوعبت الحضارة الإسلامية الحضارات الأخرى، واستمرار وجود هذه الحضارات والثقافات بيننا أكبر دليل على أننا لم نتعرض لها ولم نسعَ لإبادتها.
صحيح أننا نحاول أن ندعوهم لديننا -وهذا وضع صحي-، كما أننا نمنعهم من فعل المحرمات الظاهرة في ديننا؛ لكنا -أيضًا- كنا المثل الأعلى في القبول بهم والإحسان إليهم، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يهدون الهدايا لجيرانهم من اليهود، ويرسلون إليهم بالطعام في دلالة على البر والإقساط بهم، وكان أهم صورة في هذا القبول بالتعددية هو: عدم التعرض لهم بأذى ما داموا على عهدهم، ولذا؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وكان الخلفاء يسيرون على هذا المبدأ -الإحسان ومنع الظلم-، بل بلغوا في الإحسان شأوًا كبيرًا؛ فالتزموا بمنح غير المسلمين حقوقًا اجتماعية وصحية لا تحلم به أي أقلية في أي مجتمع.
ومِن ذلك: أن عمر -رضي الله عنه- عند مقدمه "الشام" مر بقوم مجذومين من النصارى فأمر أن يُعطوا من بيت المال، وأن يجرى عليهم القوت، فعل هذا بمجرد اطلاعه على حالهم!
وهذا عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عامله في "البصرة": "أما بعد.. وانظر من قبلك من أهل الذمة ممن قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه".
وعلى العموم فإنه لا يزال كثير من الناس في الغرب يتفهم قضايا التعددية، لكن ما يثير القلق أن يتبنى السياسيون في الغرب آراء متطرفة في هذا الصدد؛ فبينما أشار استطلاع للرأي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إلى أن أغلب الشعب البريطاني يعتقد أن التعددية الثقافية تجعل من البلاد مكانًا أفضل، فيجب ألا ننسى أن نسبة 32% يعتقدون أن التعددية الثقافية "تهدد أسلوب الحياة البريطاني"؛ بينما يرى 54% أن "أجزاء من البلاد لم تعد تبدو بريطانية بسبب الهجرة".
وهذا كله ضد التعددية، وهو ما يدفع السياسيون والمفكرون باتجاهه، ونذكر في هذا السياق ما جاء في تقرير أصدرته "الأمم المتحدة" -يوليو 2004- وفيه: "إن تقبل التعددية الثقافية يمكن أن يحول دون وقوع النزاعات، ويشجع التنمية الاقتصادية..".
وقال التقرير: "إن قمع المجموعات ذات الهوية الثقافية المحددة هو الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى التوتر".
والتطورات الحاصلة حاليًا -من محاولات البعض مداهنة الغرب ومحاولات الغرب فرض ثقافته، لا تأتي أبدًا بآثار إيجابية لصالح إقامة علاقات ثقافية متوازنة، بل تشعر بالتناقض وتجر للعنصرية.
ففي الوقت الذي يتيح فيه المجتمع الديمقراطي الليبرالي كل هذه الحرية، بل التحرر للفرد فيما يتعلق بآرائه وأفكاره وتصرفاته التي قد تخرج على النمط العام السائد في المجتمع؛ فإن هذا المجتمع نفسه يرفض منح مثل هذا الحق للجماعات العرقية والأقليات الوافدة المقيمة فيه، ويمنعها من ممارسة حياتها بطريقتها وأسلوبها الخاصين تبعًا لمنظومة القيم الدينية والأخلاقية التي تعتنقها، بل إنه قد يعمل على نبذ وطرد هذه الجماعات إن أخفق في احتوائها ودمجها -تمامًا- في الثقافة القومية التي تعترف بها الدولة.. وهذا كله يزيد الطين بلة، ويعمل على إذكاء روح المعاداة، وردود الأفعال المتشددة.
فيا ليت شعري.. هل يفيقون؟!