كتبه/ أحمد الفيشاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كانت -وما زالت- مرويات "العهد القديم" المسماة -مجازًا- بـ"التوراة" تمثل للنصارى سندًا أساسيًّا ومرجعًا أصيلاً لنبواءت الرب وبشاراته على لسان رسله وأنبيائه، ولذلك؛ كثر الاستدلال بتلك المرويات في الزمن الأول للنصرانية في المناقشات والمناظرات والرسائل، لا سيما وقد كان مهد النصرانية في بلاد يكثر بها اليهود ويروج بينهم الاستدلال بتلك المرويات، وحتى رواة الكتب التي سُميت بعد ذلك -مجازًا- بـ"الأناجيل" احتاجوا للاستدلال بـ"العهد القديم"؛ لتوثيق مروياتهم عن سيرة "المسيح" -عليه السلام-، لا سيما روايات "الصلب" و"القيامة"، ومحاولةً للإيهام بحتمية الأحداث التي يقصونها؛ لأنها هكذا تنبأت بها "الكتب المقدسة"!
وليس أعجب ما في الأمر أن يستند رواة "الأناجيل" على كتب ورثوها عن اليهود -الذين هم أعدى أعدائهم-، وهم يقرون بكفرهم وبُهتهم وضياع أمانتهم، بل الأعجب من ذلك أن يكون دليلهم من "العهد القديم" بعيدًا كل البعد عن مقصودهم، بل ربما كان دليلاً على ضد المقصود.
وهذه عادة قد سَرَت في علماء النصارى عبر عصورهم لا يُرجى لهم انفكاكٌ عنها! لكن هناك فارق جوهري بين المتأخرين القائلين بـ"قانون الإيمان" والمتقدمين من كُتـَّاب "الأناجيل" و"الرسائل" من جهة نوعية المسائل التي يحاولون الاستدلال لها، فبينما يهتم المتقدمون بإخضاع "العهد القديم" لعقيدة "الصلب" و"القيامة" تجد المتأخرين يهتمون بإخضاع النصوص لعقيدة "التجسد" و"تأليه المسيح" و"التثليث" ونحو ذلك مما لم يجرؤ كُتاب "الأناجيل" و"الرسائل" على التصريح به، بل لعله لو عُرض عليهم؛ لأنكروه ورفضوه، وهم قد ذكروا بأناجيلهم ورسائلهم عشرات النصوص التي تناقض تلك العقائد الخطيرة.
يقول "بولس": "أنا لا أحيد عما تنبأ به موسى والأنبياء من أن "المسيح" ينبغي أن يتألم"، أي: يُصلب ويقتل. "سفر أعمال الرسل 26:22".
وفي نفس السفر أن "بولس" كان يجادل اليهود ويناقشهم من "الكتب المقدسة" -أي: "العهد القديم"-، ويبين لهم أن "المسيح" الموعود ينبغي أن يتألم -أي: يصلب ويقتل-، ثم يقوم من الأموات، وأن "يسوع" -أي: عيسى عليه السلام- كان هو "المسيح" الذي نبأت به تلك الكتب. "سفر أعمال الرسل 17:3".
ولا شك أن "بولس" كان من أبرز وأول من حرَّف دين "المسيح" -عليه السلام-، وأنه كان -على أقل تقدير- القنطرة التي عبر عليها أوائل النصارى إلى أوحال الشرك والكفر في أوائل القرن الرابع الميلادي.
ولكن هل قال "بولس" بـ"التجسد" أو "التثليث" اللذين هما أخطر ما ورد بـ"قانون الإيمان"؟ لا يسهل على أحد أن يجزم بذلك أو أن يدلل عليه، ولكن الذي نجزم به أنه كان له الأثر الأعظم في تثبيت عقيدة "الصلب" و"القيامة"، وجعلها من لوازم "الإيمان المسيحي".
يقول "بولس": "أنا لا أريد أن أعرف غير أن "يسوع" هو "المسيح"، وأنه قد مات على "الصليب". "كورنثوس الأولى 2:2".
ويقول -أيضًا-: "إن لم يكن "المسيح" قد قام من الأموات؛ فباطلة كرازتنا، وباطل -أيضًا- إيمانكم". "كورنثوس الأولى 15:14"، والكرازة أي: البشارة.
وهكذا يدندن "بولس" في "رسائله" حول تلك المحاور: أن "المسيح" الموعود به في "التوراة" لابد أن يموت على "الصليب" ويقوم، وأن "يسوع" هو ذلك "المسيح"، وأن من لم يؤمن بـ"الصلب" و"القيامة"؛ فما آمن بـ"العهد القديم" ولا بـ"المسيح"، بل هو ضدهما.
مات "بولس" ولم تكن "الأناجيل" الأربعة المعروفة -الآن- قد دُونت بعد، وأثـَّرت دعوته في نفوس كُتاب تلك "الأناجيل" أيَّما تأثير، وأخذوا يقلبون صحائف "العهد القديم" ظهرًا لبطن بحثـًا عن تلك النبوءات الموهومة التي كرز بها "بولس"، فكلما وجدوا مقطعًا من "العهد القديم" تناسب ألفاظه حكاية من حكايات "الصلب المزعوم"؛ تمسَّكوا به، وجعلوه نبوءة عن "المسيح" وقالوا: "لكي يتحقق المكتوب"، حتى أصبحت تلك العبارة مشهورة متكررة بأناجيلهم كنوع من الإرهاب الفكري والضغط النفسي، فإياك أن تشك في تلك الأحداث التي نحكيها؛ فإنها هكذا لابد أن تكون كما تنبأ بذلك "العهد القديم"!
وكثيرٌ من تلك النبوءات المبتورة من "العهد القديم" لا تدل على "الصلب" و"القيامة"، أو أنها لم تكن عن "المسيح" أصلاً، والعجيب أن كثيرًا منها لم يكن نبوءة، بل كان حكاية أحداث حدثت بالماضي!
والأعجب من هذا كله أن بعض تلك النبوءات المبتورة -والتي يستدل بها كتاب "الأناجيل"- إذا راجعتها بتمامها من "العهد القديم"؛ وجدتها تبشـِّر بنجاة المسيح وحفظه، لا بصلبه وقتله كما يهذي بذلك كتاب "الأناجيل" المتأثرون بكرازة بولس!
1- يذكر إنجيل "يوحنا" أن اليهود كانوا يعظـِّمون "السبت" ويتهيئون له يوم "الجمعة"، ولأجل أن "الصلب" كان يوم "الجمعة" فقد طلب اليهود من "بيلاطس" -الحاكم الروماني- أن يكسر ساقي كل من "يسوع" واللصين اللذين صُلبا معه، وينزلهم جميعًا من صليبهم حتى لا يأتي "السبت" وهم على "الصليب"! فكسر جنود الرومان ساقي اللصين، ولكن لما هموا بكسر ساقي "المسيح"؛ وجدوه قد مات، فأنزلوه دون أن يكسروا ساقيه.
قال الكاتب -يعنى: نفسه-: "والذي عاين هو يشهد لكم! وشهادته حق! وهو يعلم -تمامًا- أنه يقول الحق! وهو يشهد لكم؛ كي تؤمنوا أنتم -أيضًا- مثله، وإنما كان هذا كي يتحقق المكتوب عنه: لا ينكسر له عظم". "إنجيل يوحنا 19:35-37".
لقد ألقى لنا الكاتب بطرف الخيط، فلنتتبعه؛ لنعرف إلامَ ينتهي.
يشير الكاتب هنا إلى نبوءة بـ"العهد القديم" بسفر "المزامير"، وهو سفر له أهمية خاصة جدًّا عند علماء النصارى؛ لأن كتاب "الأناجيل" قد اقتبسوا منه كثيرًا من النبوءات عن "المسيح"، حتى أن علماء النصارى يسمونه: "سفر المسيح الخاص".
جاء في ذلك "المزمور":
"أبارك الرب في كل حين وأسبحه على الدوام.
دعوته فاستجاب لي ونجاني من كل أهوالي.
دعا المسكين ربه، فسمع له، وخلصه من كل مخاوفه.
ملاك الرب حول أتقيائه لينجيهم.
ما أطيب الرب! طوبى لمن توكَّل عليه.
يا من يحرص على الحياة ويحب أن تطول أيامه.
صُن لسانك عن الشر، وشفتيك عن الغش.
تجنـَّب الشر، واعمل الخير، وابتغِ السلام.
عينا الرب على الصدِّيقين، وهو يسمع دعاءهم.
أما الأشرار فيقطع ذكرهم من الأرض.
يستغيث الصالحون بالله فينجيهم من مضايقهم.
الرب قريب من منكسري القلوب، ويخلص منسحقي الروح.
ما أكثر مصائب البار، ولكن الرب ينجيه منها كلها.
يحفظ جميع عظامه، ولا ينكسر له عظم.
الشرير يموت بشره، ومن يبغض البار يعاقب.
الرب يفدي نفوس عباده، وكل من اعتصم به ينجو". "من مزمور:34".
و"المزمور" كله إشارات واضحة عن نجاة المسيح، وطول أيام حياته، وهلاك عدوه وقصر عمره.
2- ونبوءة أخرى يشير إليها "بطرس" بعد رفع "المسيح" -عليه السلام- وغياب "يهوذا الإسخريوطي" التلميذ الخائن الذي انضم إلى "اليهود" ضد "المسيح"، قام "بطرس" بين التلاميذ خطيبًا فقال: "أيها الإخوة، كان ينبغي أن يتحقق المكتوب عن "يهوذا" الذي كان واحدًا منـَّا، ثم انقلب دليلاً ومرشدًا للذين قبضوا على "يسوع"، فإنه قد اشترى حقلاً بأجرة خيانته! وبينما هو فيه سقط على رأسه وانشقت بطنه وخرجت أحشاؤه؛ لأنه مكتوب عنه بسفر "المزامير": "لتصر داره خرابًا، ولا يسكنها ساكن"، ومكتوب أيضًا: "ليشغل وظيفته شخص آخر"... ثم اصطلحوا على تلميذ آخر يقال له "متياس"؛ ليتولى وظيفة "يهوذا الإسخريوطي". "من سفر أعمال الرسل 1:15-15".
ومرة أخرى يفضح السكران نفسه، فلنذهب إلى سفر "المزامير" بـ"العهد القديم"؛ لنرى ماذا قال عن "يهوذا"، وأهم من ذلك ماذا قال المسيح فيه عن نفسه؟!
"يا الله، يا من أسبحه، لا تسكت.
فإن الماكر الشرير قد تكلم ضدي بالكذب.
فأقم عليه قاضيًا شريرًا، وليقف شيطان عن يمينه.
إذا حوكم فليخرج مذنبًا.
ليقصر عمره، وليشغل وظيفته شخص آخر.
ليكن بنوه أيتامًا وامرأته أرملة.
لينقرض نسله، وليمح من الجيل الآتي اسمه.
لأجل أنه لم يرحم، بل تعقب إنسانـًا مسكينـًا ومكسور القلب ليقوده إلى الموت.
أحب اللعنة فأتته، وكره النعمة فابتعدت عنه.
هذا جزاء الرب لمن يبغضني ويتكلم عليَّ بسوء.
أما أنت يا رب فبرحمتك نجني.
فإني فقير ومسكين أنا وقلبي مجروح في داخلي.
وهنت ركبتاي من الصوم، وأصبحت هزيلاً بلا شحم.
انصرني يا إلهي، خلصني برحمتك، وليعلموا أن هذه يدك.
أما هم فيلعنوني، أما أنت فتباركني.
يهاجمونني وأنت تخزيهم، أما عبدك فيفرح.
أحمد الرب كثيرًا، وفي وسط الجموع أسبحه.
لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من الحاكمين عليه بالموت". "من مزمور:109".
والنبوءة واضحة في نجاة "المسيح" -البريء البار- ممن يريدون محاكمته بالظلم والكذب، ووقوع "يهوذا" -الماكر الخائن- في محاكمة تدينه وتقضي عليه بالموت.
إنَّ المطلع على سفر "المزامير" -سفر "المسيح" الخاص- يجد به عشرات النبوءات مما يتفق علماء النصارى أنها عن "المسيح"، ولا تكاد نبوءة من تلك النبوءات تخلو من البشارة بنجاة "المسيح" -عليه السلام-، وهذا الذي يقال عنه بحق: "لكي يتم المكتوب"، أما هذيان كُتاب "الأناجيلط فهو -أيضًا-؛ لكي يتم المكتوب: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (الجمعة:5)، ولا يسع المقام؛ لسرد تلك النبوءات، وإنما اخترنا المثالين السابقين لإشارة كُتاب "الأناجيل" إليهما، فلو تنصَّل علماء النصارى من كل نبوءات "المزاميرط -وهم لا يتنصلون-؛ فلن يمكنهم التنصل من تلك النبوءات التي أشار إليها كتاب "الأناجيل".
3- أما أجمل وأعجب تلك البشارات -على الإطلاق-، فهي تلك التي أشار لها "المسيح" نفسه، ففي إنجيل "متى" و"لوقا" أن "إبليس" أخذ "المسيح"، وأوقفه على حافة سطح "الهيكل"، وقال له: "اطرح نفسك من هنا؛ فإنه مكتوب أن الله يوصي ملائكته بك؛ لكي يحفظوك، وعلى أياديهم يحملونك؛ لكي لا تعثر رجلك بحجر"، فرد عليه المسيح: "مكتوب -أيضًا- لا تجرب الرب إلهك". "إنجيل متى 4:5-7"، "إنجيل لوقا 4:9-12".
فأقره المسيح -عليه السلام- أن تلك النبوءة مكتوبة عنه، وأنه مطمئن لوعد الله بتلك البشارة، فلا يختبر ربه.
وكأنَّ "إبليس" أعلم بـ"العهد القديم" من كُتاب "الأناجيل"؛ فقد ذكر النبوءة دون أن يحذف منها ما يغيِّر معناها كما فعل كُتاب "الأناجيل" مع نبوءات "العهد القديم" في كثير من تعليقاتهم على الأحداث، كما مر مثالان لذلك.
وإذا رجعنا إلى سفر "المزامير" -سفر "المسيح" الخاص- وجدنا به تلك النبوءة بسياق أتمّ:
"الساكن في حمى العلي وفي ظل القدير يبيت.
يقول للرب: أنت حصني إلهي الذي أتوكل عليه.
الرب ينجيك من فخ الصياد، ومن الوبا الفتاك.
يظللك بريشه الناعم، ويحميك في كنفه، ووعوده الأمينة تكون ترسًا لك.
فلا تخاف هول الليل، ولا سهمًا يطير في النهار.
يسقط عن يمينك ألف إنسان، وعن شمالك عشرة آلاف، وأنت لا يمسك سوء.
فانظر فقط بعينيك لترى عقاب الأشرار.
لأنك قلت: أنت يا رب ملاذي، جعلت العلي ملجأك.
لا يصيبك شر، ولا تدنو ضربة من مسكنك.
لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك.
وعلى أياديهم يحملونك؛ لكي لا تعثر رجلك بحجر.
تدوس على الأسد والأفعى، وتطأ على الشبل والثعبان.
أنجيك لأنك أحببتني، وأرفعك لأنك عرفتني.
تدعوني فأستجيب لك، معك أنا في الضيق أنقذك وأكرمك.
من طول الأيام أشبعك وأريك خلاصي". "من مزمور:91".
فتأمل تلك النبوءات مع قوله -تعالى-: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (آل عمران:55)، وتأمل دعوى النصارى والأناجيل أنه -حاشاه- جلده الجلاد حتى أدماه، وصفعه جنود الرومان على وجهه وقفاه، وصلبوه عريانـًا قد بدت سوأتاه، كل ذلك وهو في غاية الذل والعجز والجزع واليأس، قد تخلى عنه أصحابه، واستغاث ربه فما أجابه، فوالله ما حصل له إلا ما وعده به ربه مِن حفظه ورفعه ونجاته.
لقد أعطى كُتـَّاب "العهد الجديد" لأجيال اليهود -المؤمنين بـ"العهد القديم"- أكبر مبرر للكفر بـ"المسيح" عيسى ابن مريم -عليهما السلام-؛ فإنه لو كان هو المصلوب لما كان هو "المسيح" الموعود به بـ"العهد القديم"، ولكان متنبئـًا كذابًا يزعم أنه "المسيح" مع أنه ليس هو.
ولما بعث الله -عز وجل- رسوله الخاتم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بيَّن الحق، وكشف الغلط، وبرَّأ "المسيح" مما نسبه إليه اليهود والنصارى على السواء، ويأبى الله إلا أن يتم دينه ويفضح الكذاب، فما زالت كتب أهل الكتاب بها مِن بقايا الحق ما يُصدق دين المسلمين، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.