كتبه/ أحمد الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الجدل في شخصية مريم -عليها السلام- يدور بين طرفين ووسط من البشر، ففرقة مِنَ الناس غلت فيها حتى رفعتها عن مرتبة البشر؛ فعبدتها من دون الله -تعالى-، وجعلتها أمًا للإله، ومصدرًا للخير والنماء. وفرقة أخرى جفت؛ فاتهمتها بتهم شنيعة لا تليق بامرأة كرمها الله واصطفاها على نساء العالمين.
ووسط هذا الركام من الكفر يبزغ نجم أهل الحق والإيمان الذين رفعوا لواء التوحيد والعبودية لله؛ فأنزلوا مريم وابنها -عليهما السلام- في منزلتهما الصحيحة.
والكلام عن مريم -عليها السلام- لا ينفك عن الكلام عن عيسى -عليه السلام-؛ لأن الذي يضل في عقيدته في عيسى -عليه السلام- يضل -ولا شك- في عقيدته في مريم، والعكس صحيح، فاليهود الذين اتهموا مريم -عليها السلام- بالزنا هم الذين حاولوا قتل عيسى -عليه السلام- حتى نجَّاه الله منهم ورفعه حيًّا إلى السماء، والنصارى الذين غلوا في مريم -عليها السلام- ألـَّهوا عيسى -عليه السلام- وعبدوه من دون الله، فالارتباط بينهما -كما ترى- وثيق -ولا ريب-.
ولن نجد أصدق من القرآن يحدثنا عن هذه التفاصيل، ويعرض لنا بجلاء عقيدة الضالين في مريم وابنها عيسى -عليهما السلام-، ثم يفند هذه المزاعم الباطلة، مع تقرير العقيدة الصحيحة بأدلة ناصعة رائعة تثبت عقيدة المؤمن، وتعالج شبهات الكافر؛ إن توافرت عنده الرغبة الصادقة في الهداية والرشاد.
1- قصة ميلاد مريم -عليها السلام-:
فمع أن هذه القضية ليست بيت القصيد في مسألة تأليه عيسى -عليه السلام-؛ ولكن بدأ القرآن بها؛ لكي يبرهن على أن مريم -عليها السلام- لم تكن سوى مولودة في بطن أمٍّ من الأمهات، بل جاءت ولادتها طبيعية -تمامًا- كما يولد غيرها من الأطفال، فحكى القرآن على لسان أم مريم -عليها السلام- قولها: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران:35)، فها هي المرأة الناسكة العابدة تأخذ عهدًا على نفسها أن توقف مولودها لله -عز وجل-، ولا تشغله بشيء من أمور الحياة، ولكن وقعت المفاجأة أن صار هذا المولود أنثى، والأنثى لا تصلح للانقطاع للعبادة لما جبلها الله عليها من نقص في دينها، قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران:36).
2- فضل مريم -عليها السلام- على نساء العالمين:
وضَّح القرآن أن مريم -عليها السلام- امرأة من البشر يجري عليها مثل ما يجري عليهم تمامًا، سوى أن الله -تعالى- اصطفاها وخصَّها ببعض المزايا التي تفوَّقت بها على غيرها من النساء، فمن ذلك:
أ- ما جرى على يديها من الكرامات في شأن الطعام: فكان زكريا -والذي كان زوج خالتها ومعلمها في المحراب، عليه السلام- يجد عندها فاكهة الصيف في وقت الشتاء والعكس، فسجَّل القرآن تعجبه هذا في قوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:37).
ب- الولاية والقرب من الله: قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران:42-43).
3- قصة ميلاد عيسى -عليه السلام-:
تبدأ أحداث القصة ببشارة تلقتها مريم -عليها السلام- من الملائكة فحواها أن الله سيرزقها بمولود مبارك كثير الخير، ووضَّحوا لها أن وجود هذا المولود سيكون بكلمة من الله، وهي كلمة: "كن"؛ قال الله -تعالى-: (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران:45)، ومع ذلك فقد استشكلت مريم -عليها السلام- هذا الأمر؛ لغرابته وخروجه عن القاعدة، فقالت: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) (آل عمران:47).
فجاء الرد الحاسم الدال على أن في الأمر معجزة تفوق إمكانات البشر، ثم شرع القرآن في ذكر تفاصيل الحمل بهذا المولود، والتي بدأت بتمثـُّل جبريل -عليه السلام- في صورة إنسان كامل في مكان منفرد عن الناس، وهو مكان خلوتها بنفسها لعبادة الله -تعالى-؛ فقال -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا . فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا . قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا . قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا . قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا . قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) (مريم:16-21).
ثم أمر الله -تعالى- جبريل -عليه السلام- فنفخ في جيب صدرها، فسرت النفخة إلى فرجها، فحملت بعيسى -بإذن الله-، وخرج هذا المولود الزكي الطاهر إلى الدنيا؛ ليبدأ حياة جديدة في الدعوة إلى الله والعمل والجهاد.
4- أحداث ما بعد الولادة:
كان من الطبيعي في مجتمع سادت فيه الفاحشة وانتشرت فيه الرذيلة أن يحاول إلصاق التهم بأهل الصلاح؛ لكي يبرروا لأنفسهم ما هم عليه من فساد وانحلال، فما الظن بهم إذا وجدوا ما يعينهم على تثبيت التهمة بها، وهي: الولادة بدون زوج؟!
فتولى اليهود -كالعادة- كِبر هذه المؤامرة الخبيثة، وراحوا يوبِّخون مريم في خبث بقولهم: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (مريم:28)، وهنا تقع المعجزة الإلهية على يد عيسى -عليه السلام-؛ لأن الله -عز وجل- ما كان ليجري على مريم -عليها السلام- مثل هذه الكرامة الخارقة دون أن يؤيدها بما يبرؤها من الظن الفاسد الذي ينال مِنْ شرفها وعرضها، وهي التي وهبت نفسها للعبادة والنسك، وقد حكى القرآن هذه المساجلة الهامة في قوله: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا . قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا . وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (مريم:29-33).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "في هذه الآية إثبات من عيسى -عليه السلام- العبودية لله -عز وجل-، وأنه مخلوق من خلق الله، يحيا ويموت، ويُبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلام في هذه الأحوال التي هي أشد ما يكون على العِبَاد".
5- وقفات مع حياة عيسى -عليه السلام-:
بدأ عيسى -عليه السلام- دعوته إلى الله -تعالى- والتي كان عمادها التوحيد لله وإفراده بالعبودية، مثله مثل غيره من الأنبياء، فذكر القرآن نماذج من حواراته مع بني إسرائيل.
فمنها: وصيته لهم بعبادة الله -تعالى- وتحذيرهم من مغبة الشرك والضلال: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة:72).
ومنها: شهادته على نفسه أنه عبد مربوب لله، فقال: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (المائدة:116-117).
ومنها: بيان أن المعجزات التي أجراها الله على يد عيسى -عليه السلام- هي مِنْ جملة النعم التي أنعم بها عليه؛ فقال: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) (المائدة:110).
ثم ذكر القرآن في تقرير واضح بشارة عيسى -عليه السلام- بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف:6).
ثم ختمت حياة عيسى -عليه السلام- على الأرض بتآمر اليهود عليه؛ لكي يقتلوه تبجحًا منهم وجرأة على أنبياء الله، ولكن الله خيَّب آمالهم، وحفظ عبده عيسى -عليه السلام- من القتل، ورفعه عنده في السماء، فقال -عز وجل-: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء:157).
فها أنت أخي الحبيب، قد وضحت لك قصة عيسى ومريم -عليهما السلام- منذ بدايتها؛ فكلاهما بشر عبد لله -عز وجل-، لم يدعُ أي منهما إلى عبادة نفسه من دون الله، بل صرَّح القرآن في أكثر من موضع كفر من اعتقد فيهما بخلاف ما ذكره القرآن؛ فقال -عز وجل-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة:72)، وقال -أيضًا-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة:73).
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.