كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تناولنا في مقال: "العقلانيون يرفضون الأصيل ويقبلون الدخيل" الاتجاه العقلاني، وذكرنا أن العقلانيين على اختلاف مشاربهم أقوام تأثروا بالفلسفات الوافدة سواء منهم من ذهب إليها مسترشدًا أو من ذهب مناظرًا؛ بيد أنه وافقهم في قليل أو كثير، وأنهم عادوا من رحلاتهم الفلسفية بـ"قناعات عقلية" ظنوها "قطعيات عقلية"، وحيث إنه من المُسلـَّم به أن الشرع لا يمكن أن يعارض القطعيات العقلية فقد اضطر هؤلاء لرد ما يتعارض من الشرع مع قطعياتهم العقلية، وسلكوا في ذلك مسالك تنوعت بين رد حجية السنة ككل، أو رد حجية أحاديث الآحاد ككل أو ما تتعلق منها بباب العقيدة على وجه الخصوص.
وقد بينا أن المشكلة عندهم تصورهم أوهام الفلاسفة قطعيات، ولو تأملوا لأدركوا حقيقتها، وبالتالي لم تفلح معهم ردود أهل السنة والتي ركزت في المقام الأول على أن ما ثبت في الكتاب والسنة هو الحق -وإن توهم خلافه من توهم-، بيد أن الشبهة بقيت عالقة في أذهان القوم.
وبينّا أن تبني شيخ الإسلام لهدم ما توهموه من القطعيات العقلية وبيان أنه ليس من القطعيات، بل هو من الأغلاط أو من الأوهام أو من المحارات، كان له أثرًا بالغـًا في اندحار هذا الاتجاه، وواضح من السياق أن التجربة قابلة للتكرار، وبالفعل حدث هذا.
بدأت الحركة العقلية الجديدة في مرحلة الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين وما صاحبها من حرب فكرية انصبت في الأساس على إيجاد قناعة لدى المسلمين أن الدين هو سبب هزيمتهم، وأن الخلافة الإسلامية هي سبب تراجعهم؛ فمن الناس من تشرب بذلك من دعاة التغريب حتى صار في خصومة مع الدين، ولعل بعض كتابات "طه حسين" تمثل نموذجًا على ذلك، ومنهم من تأثر تأثرًا بالغـًا بالحضارة الغربية دون أن ينتقل إلى خانة المعاداة مع الدين كـ"رفاعة الطهطاوي"، ومنهم من تأثر بنمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم دون أن يتطرق كثيرًا إلى غيرها كـ"عبد الرحمن الكواكبي" في الغرب، ومنهم من دعا إلى صحوة إسلامية، لكن مع محاولة تفادي الصدام مع الغرب، ومع محاولة الاستفادة من بعض ما عندهم كـ"جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده"(1)، والذي نسبت المدرسة العقلانية الحديثة إليه لأسباب من أهمها:
1- أن تراث الشيخ محمد عبده بقي ملهمًا لقطاع كبير من العقلانيين بعده؛ مما يجعله يرقى إلى الدرجة التي يطلق عليه وصف مدرسة فكرية.
2- أن محمد عبده شيخ أزهري ساهم في عرض عقيدة الإسلام فوق أحد المذاهب الكلامية القديمة "الأشعرية"، وهو وإن كان مخالفـًا لمذهب أهل السنة إلا أن كثرة من انتمى إليه من الفقهاء خففت من حدة المواجهة معه.
3- كما أنه ساهم في رد بعض الشبهات عن الإسلام، وفي تثبيت الإيمان العام الذي تعرض لهزة كبيرة من جرَّاء الأبواق الكثيرة التي ربطت بين الإسلام وبين الهزيمة كما أسلفنا من قبل، ونستطيع أن نقول:
إن الشيخ محمد عبده قد نجح إلى حد كبير في تغيير الرأي العام آنذاك إلى أن: "ترك الإسلام هو سبب الهزيمة لا التمسك به".
وهو صاحب نظرية: "إن الغرب تقدم لما أخذ بمبادئ الإسلام في الوقت الذي تركناها".
كما أجاب في إحدى مناظراته مع "القنصل الفرنسي" بأن دين النصارى يقول: "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر"، ودين المسلمين يقول لهم: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال:60)، ولكن أخذ الغرب بما عندنا، وأخذنا بما عنده(2).
4- أن للشيخ محمد عبده ودعوته لفتح باب الاجتهاد، بغض النظر عن استكماله لأدواته من عدمه أثر كبير في نفي شبهة عدم ملائمة الإسلام للعصر الحديث؛ إلا أنه أسرف في الاستحسان العقلي، وهو ما ينسجم مع تكوينه الفكري العام، وإن كان حرص في الجملة أن يربط آراءه بأحد أبواب الاجتهاد الأصولي: كالقياس، والاستحسان الأصولي، وهذه الجزئية توسعت فيها المدرسة العقلية المعاصرة جدًا.
5- وقف محمد عبده موقفـًا حادًا من تخاريف الصوفية، وهذا موقف كان لا بد منه بغض النظر عن الأدلة في هذا الباب؛ ولكن لأن الغرب كان يستخدم الواقع الخرافي للصوفية كأحد أهم الأدلة على أن الدين هو مصدر التخلف(3).
6- لم يقف محمد عبده موقفـًا عدائيًا تجاه المدرسة السلفية لا سيما مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وهي مدرسة تجبر العقلانيين على احترامها لما قدمته من نقد عقلي متين لكل التراث العقلي، ولكن محمد عبده تخطى مرحلة الإذعان الاضطراري لتراث ابن تيمية وابن القيم إلى مرحلة الادعاء بانتمائه للمشروع التجديدي لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وهو ادعاء لا يخلو من مجازفة كما سنبين وإن كان يشاركها في رد خرافات الصوفية، وإن اختلفت المنطلقات التي يرد بها كل منهما الصوفية؛ لأن الصوفية مصادمة للعقل والنقل معًا فكان من الطبعي أن تـُرد من الفريقين.
كما أن إغلاق باب الاجتهاد مخالف للعقل والنقل معًا فكان من الطبعي أن ترد من الفريقين، وكما أن نفي الحكمة والتعليل في الأحكام مصادم للعقل والنقل معًا فكان من الطبعي أن يردها الفريقين معًا، وإن كان العقلانيون يتوسعون في هذا الباب توسعًا لا يرضاه السلفيون إلى الدرجة التي جعلت ابن القيم -رحمه الله- في كتابه القيم: "إعلام الموقعين" بعد أن "أشبع" أهل الظاهر نقدًا عرَّج على أصحاب الرأي فبالغ في نقدهم مبينـًا لهم أن أهل الظاهر على انحرافهم أقرب إلى الحق منهم، فإذا كانت حتى القضايا المشتركة فيها هذا القدر من الخلاف فما بالك بالمسائل الخلافية أصالة؟!
وموقف ابن تيمية من تبديع الأشاعرة لا سيما مَن عاصره، وردّه على متقدميهم واضح جدًا، وكذلك تبديعه لمن ينكر بعض الغيبيات: كتفاصيل الإيمان باليوم الآخر، وتفاصيل ما ورد بحق الجن، ونسبة محمد عبده نفسه لابن تيمية لا تلزم ابن تيمية، ولا تشفع لمحمد عبده أن يكون رمزًا سلفيًّا كما يدعي بعض المعاصرين!!
المقصود بيان أن كل هذه العوامل جعلت لمدرسة محمد عبده أثرًا كبيرًا على أرض الواقع؛ إلا أن التطور الأكبر كان بعد وفاة الشيخ محمد عبده -والذي وبعد اطلاعه على تراث ابن تيمية وابن القيم بدرجة أكبر كنتيجة مباشرة لاعتناء الحركة الوهابية في طبع تراثهما ونشره في العالم كله- انتهى "محمد رشيد رضا" إلى أن تخلص من كل الأصول العقلانية ليحل محلها أصول الاتباع السلفية، وإن بقيت شائبة من آراء عقلية من إنكار بعض الغيبيات رفضها محمد رشيد بدعوى عدم صحة النصوص المثبتة لها، وصرَّح بأنها لو صحت لقال بها، ومثل هذا يقال عنه إنه اتبع المنهج السلفي، ولكنه اخطأ في التطبيق كما أخطأ غيره ممن هم أعلم وأجل "وإن كان قد تأثر في خطأه بقناعات قديمة ولا شك".
ما زال العقلانيون يبكون على اليوم الذي سلـَّم فيه "محمد عبده" قيادة مدرسته إلى "محمد رشيد رضا"، ومن تلاميذ "محمد رشيد رضا" خرج الشيخ "محمد حامد الفقي" مؤسس "أنصار السنة المحمدية"، وخرج الشيخ "حسن البنا" مؤسس "جماعة الإخوان"، وسوف نتجاوز الفترة من عشرينات القرن العشرين إلى سبعيناته؛ حيث خرجت الحركة الإسلامية المعاصرة من المتأثرين بهذين الحركتين مع الصقل الذي جاء عن طريق الاحتكاك المباشر بكتب ابن تيمية وابن القيم، وكتب علماء الدعوة الوهابية المعاصرين، وكتب العلامة "الألباني".
ولتأخذ الحركة الإسلامية صبغة سلفية واضحة، والتي انطلقت من أمل كبير بنصر كبير، وهو كذلك -بإذن الله-، بيد أنه يحتاج معه إلى ذلك التحذير الذي حذره النبي -صلى الله عليه وسلم- لخباب -رضي الله عنه-: (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري)، ونتيجة لعدم اكتمال الصحوة الإيمانية من جهة، ولاستنفار الغرب لمواجهتها من جهة أخرى تعثرت الصحوة، ومع وجود داء الاستعجال تحرك المفكرون بفكرهم وكانت فكرة: "أن في الغرب إسلامًا بلا مسلمين" ما زالت تعيش داخل نفوس الكثيرين؛ الذين وكأنهم نفضوا أيديهم وبسرعة من النصر القادم من عقر دار الإسلام؛ فأصبح السؤال الملح: ما الذي يمنع الغربيين من دخول الإسلام إذا كانوا يعيشونه واقعًا؟!
كان التعليل الذي مال إليه كثير من العقلانيين: أن بعض القضايا التشريعية في الإسلام تعتبر ثقيلة على الغربيين لا سيما فيما يتعلق بالمعاملات، وعلى رأسها قضية المرأة، وقضية الالتزام بالهدي الظاهر، ونظام الحكم، والعلاقات الدولية، والحريات الدينية.
ومن ثمَّ فقد رأى العقلانييون أنه لا بأس بتهميش هذه القضايا؛ لا سيما إذا كان الخطاب موجهًا إلى الغرب؛ بيد أن الساسة والمفكرين في الغرب وجدوا في ذلك الاتجاه فرصة سانحة لفرض حضارتهم ونمط حياتهم على جميع الأمم، وعلى رأسها أمة الإسلام ومن ثمَّ كان رد فعل الغرب تجاه أي خطوة تنازل جديدة هو مطالبة صاحبها أن يعلن ذلك على المسلمين، وأن يدعوهم إليه وبعد استقرار ذلك يطالبون بمزيد من التنازلات، وربما قدمها نفس الشخص أو نفس الاتجاه، وربما تمنعوا فحمل راية "التلفيق" أقوام غيرهم(4).
وقدم العقلانييون تنازلات كثيرة فمستقل ومستكثر، ولأن هذه التنازلات مصادمة بطبيعتها للنصوص الشرعية، فقد استعار هؤلاء نفس أدوات المعركة من محاولة إزاحة النص لصالح العقل الغربي أو إن شئت قلت المزاج الغربي، والهوى الغربي فمنهم من أنكر حجية السنة مطلقـًا، ومنهم من توسع في تطبيق قاعدة رد الحديث إذا خالف القطعيات فاعتبر أهواء الغربيين في حب الكلاب واقتنائها، بل وأكلها قطعيات عقلية تـُرد من أجلها السنن، واعتبر هوس الغرب بحرية المرأة وحرصهم -شهوة من البعض وطلبًا للفساد في الأرض من البعض الأخر- لإخراجها للعمل، وتوليها الولايات قطعيات عقلية، واعتبر في سبيل دفع المسلمين إلى أن يكون مظهرهم غربيًا عسى الغرب يرضى عنا أن كل نص يتكلم عن الهدي الظاهر مخالف للعقل الذي يحتم وفق وجهة نظرهم الاهتمام بالجوهر وترك المظهر، والاهتمام باللب وترك القشر؛ مع أننا فوجئنا أنهم بعد أن زعموا لنا ضرورة ترك المظهر "الإسلامي" لصالح الجوهر "الإسلامي" وحيث إنه لا بد لكل شخص أو مجتمع من مظهر فقد تحولت دعوتهم إلى ترك المظهر "الإسلامي" واستبداله بالمظهر الغربي.
وهكذا تولدت مدرسة عقلية تعادي من السنن كل ما يزعج الغربيين في جوانب التشريعات المتعلقة بالنواحي الحياتية، وإن كانوا كأسلافهم يصلون، ويصومون، ويزكون، ويحجون وفق نفس السنة التي يطعنون عليها.
وبهذا العرض لقصة العقلانيين؛ القدماء منهم والمعاصرون؛ نتبين أنهم يتعاملون بنفس النهج مع النصوص الشرعية التي لا تروق لهم مع اختلافهم في الاهتمامات، وفي النتائج، وإذا كانت أبرز فرقة عقلانية في التاريخ القديم كانت ذات منهج تصادمي يرى كفر مرتكب الكبيرة، وإن تجمل في اللفظ فأوقفه في منزلة بين المنزلتين، ويبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى حد المصادمة، بينما أنتجت العقلانية الحديثة اتجاهًا مهادنـًا يحاول تبرير الواقع المحلي والواقع العالمي، ويتبنى الحرية الفردية وفق المفهوم الغربي إلى الحد الذي تبهت معه جدًا قضية لأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(5).
- وكما أورثت المدرسة العقلانية القديمة الأمة اختلافـًا واضطرابًا إلى حد قول قائلهم:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حـقـًا وكـل كـاسر مكسور
كذلك لم تكن المدرسة العقلانية الحديثة بأسعد حالاً من سابقتها فهي تعيش أزمة فقدان البوصلة وغياب المرجعية، ولا تكاد تميز بين ما يقر كل منهم وما ينكر.
وإلا فهاهم يتبرأون من جرأة الترابي في إفتائه بـ"جواز زواج المسلمة من الكتابي"، وغيرها من شذوذاته، والذي دافع عن نفسه بأنه لم يفعل أكثر مما فعله الغزالي والقرضاوي بنصوص أخرى.
وهذا "عمرو خالد" يستحسن الذهاب إلى "الدنمرك" بمشاركة "السويدان" ومباركة "سلمان العودة" فيخطئهم شيخهم "القرضاوي" بأنهم لم يستشيروا علماء الأمة.
بل هاهو القرضاوي ينتهي به نظره إلى أنه آن الأوان لإيقاف مسلسل المجاملات المكذوبة للشيعة تحت شعار: "التقريب"؛ فيخرج عليه "العوا" معترضًا إلى الدرجة التي جعلت اتحاد علماء المسلمين لا يتسع لهما معًا، مع إننا نقطع أن "العوا" يعلم من فضائح الشيعة ما يعرفه القرضاوي إلا إن "القرضاوي" رأى أن "الكيل قد فاض" بينما "العوا" ما زال "كيل مجاملته للشيعة يسع الكثير"! وكلاهما يريد المصلحة الإسلامية فيما نظن، ولكن "كم من باغ خير لا يبلغه"!
وهذا آخر هداه تفكيره إلى أن إرضاع المرأة لزميلها في العمل يحل مشكلة الخلوة في أماكن العمل، ولو كان الغزالي حيًا لقال فيه ما قاله مالك في الخمر، وكل منهما سيكون متحاكمًا إلى عقل نفسه.
ولو أخذنا نعدد الأمثلة لطال بنا المقام جدًا، ولا ندعي أن رد الناس إلى النص سوف يرفع الخلاف، ولكنه سوف يضيق دائرته جدًا؛ بالإضافة إلى أن هذا واجب أصالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكرنا من كل اتجاه رمزا من رموزه، مع مراعاة أن هذه الحقبة التاريخية طويلة، ولم يظهر كل هؤلاء دفعة واحدة، وإن كانت كل هذه الآراء تواجدت جنبًا إلى جنب على طول الفترة، ومن الجدير بالذكر أن موقف أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة من هؤلاء قد تفاوت تفاوتا بينـًا بين من يرى: أن كل هؤلاء أقدموا على ما أقدموا عليه وهم يعلمون بما يقومون من عملية تغريب وذوبان في الغير، والبعض الآخر يرى: أنهم لـُبس عليهم، وعلى أية حال فالمقام هنا مقام تقييم أفكار لا أشخاص، ومن ثمَّ فينطبق علي حالنا قول القائل الذي عوتب في رده على "كشاف الزمخشري" على أساس أنه تاب من الاعتزال، فقال: "إن تاب فما تاب كشافه".
(2) مع أن هذا الطرح في هذا السياق صحيح إلا أن الشيخ محمد عبده بالغ في هذه النظرية حتى قال: "إن عند الغرب إسلامًا بلا مسلمين وعندنا مسلمين بلا إسلام"، وهو بذلك أعلى الجزء الذي اقتبسه الغرب من الإسلام في الأخذ بالأسباب والسعي في تحصيلها، والاهتمام بالعمل والنظام، وقدر من الأخلاق العامة يضمن استقرار المجتمع، وهذه نظرة غير سديدة تهدر قيمة العقيدة الإسلامية، وتهوِّن من خطر الشرك الذي عليه هؤلاء القوم.
ولبيان فساد هذا التصور نضرب ذلك المثال: هب أنك تعاقدت مع شركة بناء لبناء مسكن واشترطت عليهم الكثير من التفاصيل؛ فلا شك أن الحالة المثلى هي إنجاز العمل كاملاً، ولكن وجد نوعان من التقصير:
الأول: كان عن طريق الاقتصار على إقامة الأعمدة دون استكمال الجدران والتشطيبات.
والآخر: أقام بناء هيكليًا من الورق المقوى وأتم فيه كل أنواع التشطيبات أفيعقل أن يـُثنى على الثاني حتى ولو كان في مقام المقارنة مع صاحبه أو حتى في مقام تحفيز صاحب الأعمدة على اللحاق به؟! إن المسلم الموحد العاصي لا سبيل إلى تحفيزه إلى العمل الصالح إلا بعرض النماذج التي عملت بالإسلام أصولاً وفروعًا، وأقامت بنيانه كما أمر الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة:208).
ومما ساهم في انتشار هذه النظرة لدى كثير من الخاصة -فضلاً عن العامة- إلى يومنا هذا أنها ترضي العاطفة الإيمانية حيث تجيب عن التساؤل: "كيف ينصر الله الكفار على المسلمين؟!" بإجابة مقنعة ظاهرية، مع أن الإجابة الصحيحة هي: أن الله لا ينصر المسلمين لمجرد إسلامهم، بل ينصرهم إن قاموا بدين الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7).
وأما المسلمون المقصِّرون فغالبًا ما يخلي الله بينهم وبين أعدائهم وفق الموازين المادية، وهذا التقصير يشمل التقصير في إعداد العدة المادية المتاحة، ولكنه يشمل قبل ذلك إعداد العدة الإيمانية، وهذا الخلاف في التصور عن أزمة العالم الإسلامي المعاصرة مثـَّل أحد أهم أسباب الخلاف بين الاتجاه السلفي والاتجاه العقلاني؛ حيث انصرف السلفيون إلى دعوة المسلمين إلى العودة إلى الإسلام في المقام الأول؛ بينما انصرفت جهود العقلانيين إلى البحث عن السبب الذي يمنع من دخول الغربيين في الإسلام رغم أنهم يعيشونه واقعًا في حد تصور الشيخ محمد عبده، وكان التعليل المطروح: أن بعض القضايا التشريعية يستثقلها الغربيون فحاولوا تهميشها على الأقل أمام الغرب، وهذا هو الأساس الذي انطلقوا منه.
(3) مرت أوروبا بمراحل في تاريخها:
الأولى: مرحلة وثنية العقيدة علمانية الحياة.
الثانية: مرحلة مسيحية العقيدة والشريعة، وهي شريعة جائرة من وضع الأحبار والرهبان بلغت من جبروتها التدخل لفرض نظريات علمية على حساب أخرى.
الثالثة: مرحلة العلمانية المعاصرة وهي الفترة التي تزامنت مع الاستعمار الحديث، ومن ثمَّ كانت خطتهم نشر علمانيتهم في بلاد المسلمين، ووجدوا أن الصوفية تصلح أن تكون ممثـِّلاً للإسلام في معركة مع العلم يخرج منها العلم منتصرًا، كما خرج منتصرًا من معركته مع الدين الخرافي للكنيسة!
الرابعة: وهي نتيجة لفشله في فرض دينه العلماني على بلاد المسلمين فشعر بالخطر في أن يؤدي الفراغ الديني عند العامة في الغرب مع استمرار وجود الإسلام كدين حيوي قائم على ظهر الأرض فعاد ليعيد إلى دين الكنيسة قدرًا من الاعتبار مع حصاره داخل الكنيسة، وعدم خروجه منها إلا بإذن؛ كخلق رأى عام في قضية ما كالمخدرات، وبناء على طلب من الساسة المدنيين؛ وهذه المرحلة الحالية أثرت في دعم الغرب لتيار المدرسة العقلانية الحديثة كما يأتي -إن شاء الله-.
(4) وقد أوقعهم ذلك المنهج التلفيقي في تناقضات عظيمة؛ فلما علا نجم الاشتراكية رام قوم التوفيق بينها وبين الإسلام حتى قالوا: "إن الإسلام اشتراكي"، مع وجود من كان من الصحابة يجهز جيشًا بأكمله من ماله، وهو عثمان -رضي الله عنه-، ومنهم أبو بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم -رضي الله عنهم-، وقد كانوا ممن رزقهم الله مالاً وفيرًا، ولم ينكر عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ما داموا اكتسبوه من حل ووضعوه في حل.
وأخذوا يفتشون عن أي شبهة يلصقون بها الاشتراكية للإسلام معرضين عن البينات الواضحات فتمسكوا بموقف فردي لأبي ذر رضي الله عنه -والكلام على هذا الموقف الفردي يحتاج إلى تفصيل-، وهل ادعى حرمة اكتساب المال الكثير وإن كان من حلال أم أنه اختار لنفسه الزهد في المال ابتداء حتى لا يسأل عنه يوم القيامة؟؟!
وتمسكوا بحديث: (الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ فِي الْكَلإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، والحديث معناه: أنه لا يجوز للإنسان أن يمنع فضل مائه ولا عشبه، ولا ناره، فهذه أمور مخصوصة، إذن فالحديث حجة عليهم لا لهم، فإنه نص على هذه الثلاثة، إذن فالباقي له أن يمنع فضله، وقد أجرى الله الحق على لسان شوقي في براءة الإسلام من الاشتراكية من حيث لا يدري حينما أراد أن يمدح اشتراكية الإسلام فقال:
الاشتراكيون أنت إمـامهم لولا دعـاوى الـقـوم والغلواء
داويت متئد وداووا طفرة وخير من بعض الدواء الـداء
والبيت الثاني رد على الأول... فهل يجعل من داوى الأمر برمته تابعًا لمن داوى شيئًا منه؟!
وقد ظهرت عيوب الاشتراكية -والحمد لله- لكل ذي عينين... فأصبحوا اليوم يقولون:
"الإسلام ديمقراطي" و"الشورى هي الديمقراطية"! وكانوا قديمًا يقيدونها بقيد ألا تعارض الشرع، وحيث إن هذا القيد بمثابة تعريف جديد للديمقراطية فقد قبله الغرب لفترة، ثم عاد ليطالب الديمقراطيين الإسلاميين بحذفه فتم حذفه نظريًا وعمليًا في كثير من التجارب كالتجربة التركية، وقبلت جماعة الإخوان في مصر بكثير من ذلك إلى أن احتدم الخلاف الداخلي حول جواز ولاية الكافر، ومنهم من قبلها ومن رفضها، واضطر كثير من الرافضين إلى تخريجها على مبادئ الديمقراطية.
وكذلك من الناحية الاقتصادية نادوا برأسمالية الإسلام وزعموا أن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد حر ليبرالي، بل جاوز بعدهم المدى بادعاء أن الإسلام ككل ليبرالي حتى صار مصطلح: "الإسلام الليبرالي" شائعًا جدًا في هذه الأيام.
وفي واقع الأمر فإن القـَدْر المشترك بين الإسلام والاشتراكية أو من الجهة الأخرى القدر المشترك بين الإسلام والرأسمالية لا يسوِّغ نسبة هذه المذاهب إلى الإسلام، ولا نسبة الإسلام إليها كما أن القدر المشترك بين الإسلام وبين معظم أديان الكفر في اعتقاد وجود الخالق لم ينفِ عنها صفة الكفر ولم يجعلها إسلامًا.
(5) ومن مسالك المدرسة العقلانية القبول بمبدأ: "الغاية تبرر الوسيلة" وإن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال، بل إن أصل الفكرة قائم على ذلك؛ فهم في سبيل الدفاع عن الإسلام أو الدعوة إليه -بزعمهم- يعرضون عن نصوص الشرع بالرد أو بالتأويل والكذب؛ فبينما يرفضون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوى التشكك في ثبوتها يقبلون من الأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة إذا كان يخالف هواهم، والذي ندين لله به أن الوسيلة الشرعية ينبغي أن تكون شرعية، كما أن الغاية ينبغي أن تكون شرعية؛ قال -صلى الله عليه و سلم-: (لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ) (رواه مسلم).
وأما ما تمسك به بعضهم من قول الأصوليين: "إن الوسائل لها أحكام المقاصد"؛ فمقصودهم بذلك: الوسائل المباحة؛ لأنهم يذكرون ذلك في معرض بيان متى تتغير الأشياء التي أصلها الإباحة عن هذا الأصل، وأما الأمور المحرمة فلا يجوز استعمالها إلا في حالة الضرورة، والتي ينبغي أن تقدر بقدرها كما هو مبسوط في موطنه.