كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالعقل هو النعمة الرئيسية التي كرَّم الله بها الإنسان على الحيوان، والعقل هو آلة الإدراك في الإنسان، وهذه الآلة تستقبل عن طريق الحواس ثم تدير عملية تفكر وتدبر فتخلص إلى نتائج تسمى نتائج عقلية؛ فإذا رأى الإنسان قصرًا مشيدًا فهذه معلومة بسيطة تنتقل إلى عقله الذي يمكن أن يولد منها أمور أخر، من أهمها:
- أنه لابد لهذا القصر من صانع.
- ومنها أن هذا الصانع كان له هدف ما من وراء هذه الصنعة.
- ومنها إجراء مقارنة ذهنية بين هذا القصر وبين قصور أخرى مشابهة.
وهو في ذات الوقت يعجز عن معرفة أمور أخرى على وجه الدقة، وإن كان من الممكن أن يقدرها تقديرًا قريبًا من الصحة، مثل:
- كمية مواد البناء المستخدمة.
- عدد العمالة التي عملت في هذا القصر.
- الوقت الذي استغرقه بناء هذا القصر.
كما أن أمورًا أخرى لا يمكنه أن يعرفها ولو بحدس أو تخمين عن هذا القصر، مثل:
- أعيان من ساهموا في بنائه.
- تاريخ كل الأحجار المستخدمة في البناء، من أين جاءت؟
- مصير هذا القصر أيبقى أم يزيله زلزال، أم تدمره عاصفة، أم تحرقه نيران إلى آخر ذلك؟؟
وكذلك ما هو خاضع للإدراك من ذلك فيتفاوت فيه الناس بحسب قدراتهم العقلية، وحسب التراكم المعرفي السابق على المعلومة القادمة من الحواس حول هذا القصر، والتي استخدمها العقل على الأقل في الأمور التقديرية، وفي شأن المقارنات والموازنات.
وإذا تخطينا هذا المثال الشديد البساطة إلى الأمثلة الأعقد لعلمنا أن للعقل البشري قدرة محدودة لا يتعداها، وأن إقحام العقل البشرى في مجال لا تدرك الحواس ذاته ولا آثاره بدعوى أنه تعامل مع مجالات أخرى، كمن يكلف الدراجة البخارية أن تجر جبلاً من مكانه بدعوى أنها قدرت على حمل رجل من مكان إلى آخر؛ فإذا طبقنا هذا على الإنسان والكون من حوله لوجدنا أنه على الرغم من تضاعف قدرة حواسه لآلاف المرات بما هيأ الله له من الآلات التي تزيد نطاق الرؤية والسمع إلا أن معظم الموجودات في هذا العالم حقيقتها مغيبة على الإنسان.
بل ما زال الإنسان يجهل الكثير عن نفسه، وما زال يعاني من أمراض غامضة، وما زال لم يكتشف بعد دواء لبعض الأمراض مع وجود يقين عام عند الناس بأن دواءها موجود في الأرض؛ فالمسلمون يعتقدون ذلك بخبر نبيهم -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً) (رواه البخاري)، والملحدون من باب ظنهم أنهم أحاطوا بكل شيء علمًا، وأهل الكتاب حائرون بين المسلكين إلا أنهم في الجملة يؤمنون بأن لكل داء دواء، ولكن أين هو الدواء الشافي من السرطان، ومن الإيدز، ومن أنفلونزا الخنازير؟؟!!
إذن فالعقل البشري عاجز في معظم ما يطرح عليه من قضايا، ولكن هل يمكن أن يستسلم الإنسان لهذا العجز؟
فالواقع أن هذا الاستسلام وإن وجد من بعض التيارات التشاؤمية إلا أنه لم يمثل أبدًا اتجاهًا بشريًا عامًا، وعامة أهل الأرض يسعون لإدراك ذاتهم والكون من حولهم.
وأهل الأرض في هذا الأمر ثلاثة طوائف:
الأولى: أتباع الرسل(1)، وسوف يأتي الكلام عليهم لاحقـًا.
الثانية: الفلاسفة، وهم الذين أجهدوا عقولهم في تفسير كل أمور الدنيا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن مزيد من المعلومات الحسية، وزادوا الطين بلة بأن بحثوا فيما وراء المادة مما لا توجد أي وقائع ملموسة عنه فيما يعرف عندهم بـ"الميتافيزيقا" أي: علم ما وراء الطبيعة.
وكان من الطبيعي جدًا أن خطأهم في الحسيات أكثر من صوابهم -"هذا إن كان لهم صواب أصلاً"-، وهذا ما دعم على الأقل فيما يتعلق بالتاريخ الحديث من ظهور الفريق الثالث وهم التجريبييون.
الثالث: وهؤلاء وافقوا الفطرة عندما أمدوا العقل بمزيد من المشاهدات لكي يستطيع أن يصل بهم إلى نقاط أبعد في إدراك الكون والحياة، وقد كان لاكتشاف هؤلاء سننـًا كونية آثارًا عظيمة أثرَت الحياة على الأرض إثراء عظيمًا، وكان له أثرًا كبيرًا في انهيار صرح الفلسفة في عالم المادة.
ولكن سيظل العلم التجريبي عاجزًا في المجالات الاجتماعية والسلوكية التي لا تظهر آثارها إلا عبر أجيال طويلة مما يعني أن العلم التجريبي في حاجة ماسة إلى واحد من اثنين: إما الدين وإما الفلسفة.
ومن هنا اختلف التجريبييون بدورهم:
- فمنهم من رأى استكمال بنائهم المعرفي من خلال الدين، وإذا حصرنا كلامنا على انتصار المنهج التجريبي في عصر النهضة في أوروبا فسيكون الدين هو اليهودية والنصرانية؛ إلا أن هذا الاتجاه اصطدم بواقع وهو أن الدين ليس مختصًا بالميتافيزيقا فقط، وأن فيه كلام عن عالم المادة، وأن التوراة المحرفة احتوت على سقطات شنيعة في عالم المادة، منها:
- ما ذكرته التوراة المحرفة عن يعقوب -عليه السلام-؛ من أنه بعد الاتفاق مع حموه على قسمة الغنم على أن تكون المخططة ليعقوب كان يضع أعواد مخططة أمام الغنم العشر لتتوحم عليها حتى استطاع بهذه الحيلة تحويل معظم القطيع إلى غنم مخطط -"ولا أدري هل من الممكن أن يكون داروين قد استقى نظريته في تطور الأنواع من هذه الحيلة الكاذبة واقعًا والمحرمة شرعًا على فرض حصولها"-.
- ومنها: الفصول الطويلة التي في التوراة حول مرض البَرص بما يخالف أبسط المبادئ العلمية؛ ولم يكتفِ كاتب التوراة بالدخول في تفاصيل طبية لا يعرفها حول مرض البرص، بل تعدى ذلك إلى الكلام عن برص الجدران والثياب، وكيفية اكتشاف المعدي من ذلك من عدمه!! فتبين من ذلك أن هذا الدين لا يصلح أن يكون مصدرًا للمعرفة، ومما يؤسف له أنهم بدلاً من أن يبحثوا عن الدين الصحيح ليأخذوا منه المعرفة أطلقوا القول بأن الدين كل الدين لا يصلح للمعرفة!!
- ومنهم من يرى استكمال بنائه المعرفي من الفلسفة.
ومنهم من ازدرى محاولة إدراك أي شيء خارج عن نطاق التجربة والرصد، وهو الاتجاه المسيطر على الفكر الغربي الآن.
فإذا تركنا هؤلاء لبرهة لننظر ماذا قدَّمت الرسالات السماوية للبشرية -"حصرنا الكلام في الرسالات السماوية هنا؛ لأن الأديان الوضعية لا تعدو أن تكون ضَربًا من ضروب الفلسفة"-، سنجد أن الرسالات السماوية تخاطب في الإنسان عقله لتصل به إلى نتائج محددة كما نجد ذلك في القرآن(2)، فمن ذلك:
1- إلزام العقل بوجود الخالق كما في قوله -تعالى-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور:35-36).
2- إخباره بأن خالقه لا يمكن أن يتركه عبثـًا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون:115).
3- إخباره بأن الرسل جاءت بالبينات التي تدل على صدقهم من معجزات حسية شاهدها أهل زمانهم؛ بالإضافة إلى المعجزة الكبرى للنبي -صلى الله عليه وسلم- "القرآن الكريم"، والذي تدل عدة أمور على أنه من عند الله، منها:
1- إحكام نظمه وإتقانه، يعرف ذلك كل من عرف كلام العرب.
2- عجز أعدائه أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله مع كثرتهم وتوافرهم، وكثرة ما ينفقون من أموال وأنفس لمحاربته إلى يومنا هذا.
3- تيسيره للذكر والحفظ بحيث لا يكاد يوجد كتاب على ظهر الأرض يحفظه الملايين بحروفه إلا القران، بل ربما حفظه من لم يعرف كلام العرب.
4- سمو تشريعاته وأحكامه، وما تبين للبشرية من عبر تاريخها من المصالح في تشريعاته.
5- الأخبار المستقبلية التي لم يتخلف شيء منها.
5- الحقائق العلمية التي لا يمكن أن يدركها بشر في زمان نزول القرآن، ومن أظهرها تصوير مراحل خلق الجنين تصوير لم يصل إليه البشر إلا منذ عشرات السنين.
إذن فالإسلام يأخذ الإنسان العاقل في جولة عقلية لابد وأن ينتهي منها الإنسان إلى وجود الرب -تبارك وتعالى-، وصِدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- المبلغ عنه وصحة نسبة القرآن إليه، وتعتبر هذه النقطة فاصلة ينتقل عندها العقل من دور القائد إلى دور التابع، وإلى هذا أشار بعض السلف بقوله: "العقل كالدابة توصلك للسلطان ولا تدخل بها عليه"، وقد فهم بعض الناس أن معنى هذا أنه بمجرد إيمانه ينتهي تمامًا دور عقله، ولكن الصحيح أن العقل الذي قاده إلى معرفة الإله والرسول يُلزمه بأن يقبل الرسالة، ويوقن بصدق جميع أخبارها، وبحكمة جميع أحكامها؛ لأنها من عند الخبير البصير، وفي هذا المعنى يقول الله -تعالى-: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)، أي: ألا يعلم الخالق المخلوق -"على خلاف بين السلف في أيهما مظهر وأيهما مضمر".
ويمكن التمثيل لذلك بمثل أكثر وضوحًا؛ وهو: كيف أن العقل يدل المريض على أهمية الذهاب إلى الطبيب ثم إن العقل ذاته يأمره بالتسليم للطبيب وعلى الرغم من أن الطبيب بشر يخطئ ويصيب، وأن معرفته من حيث الجملة مقدورة لغيره إلا أن العقل يُلزم الإنسان بالتسليم للإنسان الأعلم منه، فكيف بالنسبة لله العليم الخبير؟!
وإذا استصحبنا مثال المريض والطبيب معنا فيمكننا أن نلخص دور العقل في مرحلة ما بعد الذهاب إلى الطبيب في نقطتين رئيسيتين:
الأولى: الفهم عن الطبيب فيما يبين من أسباب الداء وطرق الدواء.
الثانية: في المراقبة العامة على الخطأ الذي يمكن أن يتم في التطبيق كالخلل الذي يمكن أن ينشأ من التباس خط الطبيب على الصيدلي فيراجع اسم الدواء وأثره، ويطابق هذا على حالته وعلى ما ذكره له الطبيب.
وإذا عدنا من المثال إلى قضية دور العقل مع الشرع فسنجد الإبداع في مجال العلوم التجريبية الذي حلـَّق فيه المسلمون تحليقـًا واسعًا مسترشدين بالإشارات العامة جدًا التي في الشرع إلى هذه العلوم، مثل:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مَلأَ آدَمِىٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ حَسْبُ الآدَمِىِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ غَلَبَتِ الآدَمِىَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)، (فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، في "باب الطب".
ومثل قول الله -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد:25)، في باب "الصناعة والتعدين"، ومثل قوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء:30)، في باب "الأحياء".
هذا كله مصحوبًا بالإذن العام بالبحث والتنقيب: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15)، وأما الإبداع في المسائل الشرعية فبحر لا ساحل له؛ مدح الله أصحابه ورفع النبي -صلى الله عليه وسلم- شأنهم فقال: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) (متفق عليه)، والفقه: الفهم.
ولنا أن نتأمل في مقدار السرور الذي كان منه -صلى الله عليه وسلم- لما استنبط أبي بن كعب -رضي الله عنه- أن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، ومقدار ما تمنى عمر أن لو كان ابنه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قد صرَّح لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما وقع في نفسه من الشبه بين المؤمن والنخلة.
ثم إذا نظرت إلى ترتيب الأحكام على المسائل فيما عرف بـ"علم الفقه" على يد "أبي حنيفة"، وترتيب الأدلة على هذه المسائل فيما بعد على يد الإمام "مالك"، وانتزاع أصوله من فروع على يد "الشافعي"، وجمع السنة على يد الإمام "أحمد" تدرك أن العقل المسلم قد أبدع في باب العلم الشرعى إبداعًا لا يدانيه أي إبداع عقلي في تاريخ البشرية.
ويأتي قمة الإبداع العقلي المنضبط شرعًا في علم أصول الحديث الذي أخذ قاعدتين شرعيتين فصاغ منهما علمًا تميزت به الأمة حتى عرفت بـ"أمة السند"، فأما الأولى منهما:
فهي قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات:6).
وأما الثانية: فقاعدة عامة مأخوذة من عدة قواعد تفيد بأن الله تعبدنا بالظن الراجح عند غياب اليقين، ومن هاتين القاعدتين استنبط علماء الحديث قواعد قبول الحديث، أي التسليم بصحة نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فكانت شروط قبول الحديث عندهم:
1- عدل الرواة.
2- ضبط الرواة.
3- اتصال السند.
4- السلامة من الشذوذ.
5- السلامة من العلة.
والشرطان الأخيران فيهما مراعاة بأن خبر الواحد -"أي الخبر الذي لم يبلغ عدد رواته وصفاتهم مبلغـًا يستحيل معه الخطأ عليهم عمدًا ولا خطأ"-، مبني على غلبة الظن بصدق وضبط المسلم العدل، وأنه لإعمال غلبة الظن ينبغي ألا تعارض ما هو أرجح منها، كمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، أو رواية الثقة ما يصادم صريح القرآن أو يخالف القطعيات العقلية.
ومن هذا العرض الموجز نخلص إلى النتائج التالية:
1- المحدثون أصحاب نتاج عقلي من أعظم النتاج العقلي -إن لم يكن الأعظم على الإطلاق في علوم الإسلام-، وهذا ينفي تهمة مخاصمتهم للعقل التي يحاول خصومهم دائمًا أن يلصقوها بهم.
2- أن المحدثين احتاطوا لوهم الرواة واستخدموا العقل كأحد مصادر ضبط هذا الوهم، ولكن قيدوا ذلك بالقطعيات العقلية لا الأوهام والظنون، وهذا أمر في غاية الأهمية كما سيأتي بيانه -إن شاء الله-.
وإذا اكتفينا بذلك العرض الموجز لدور العقل في الإسلام لنعود إلى حال المرجعيات الثلاث "الوحي - الفلسفة - التجريب"، لنجد معارك ثنائية بين كل اثنين من هذه انتهت بما يلي(3):
- هزيمة الفلسفة هزيمة ساحقة أما العلم التجريبي.
- هزيمة اليهودية والنصرانية أمام العلم التجريبي.
- تعقيد العلاقة بين الفلسفة وبين النصرانية بحيث استخدمت المجامع الكنسية الفلسفة في إعادة صياغة عقائدها الرئيسية -"الخطيئة والفداء والصلب"-؛ إلا أنها حظرت تداول أي فلسفات أخرى، وهذا يعني أنه بالنسبة للغرب فقد تم إحالة كتب الفلسفة إلى متحف التاريخ.
وأما بالنسبة للإسلام فكان الإسلام بلا فلسفة وبلا علم تجريبي أيضًا، ثم إن المسلمين قد أخذوا العلوم التجريبية لغيرهم فنقحوها، وخطوا بها خطوات كانت هي التي أسست للنهضة العلمية الحديثة؛ مما أغرى "المأمون" أن يطلب ترجمة العلوم الفلسفية هي الأخرى عساه يجد فيها جديدًا يقدمه للمسلمين، وطلبها من إمبراطور الروم الذي ضنَّ بها أولاً عليه لولا "عجوز خبير" بما في الفلسفة من فساد؛ فقال قولته المشهورة: "أعطها لهم فإن هذه العلوم لم تدخل على قوم إلا وأفسدتهم"، وقد كان!!
لا سيما وأن التجربة كانت مسبوقة بمحاولات غزو من الفلسفات الشرقية القديمة على يد طائفة "السمنية"، وغيرهم... وخاض بعض المشتغلين بهذه الكتب الترجمة في خرصهم بالغيب فيما يتعلق بوجود الله، وذاته، وصفاته، وقضائه وقدره، وغاب عن هؤلاء قول القائل: "العقل كالدابة توصلك إلى السلطان ولكن لا تدخل بها عليه".
فخاضوا بعقولهم فيما لا تدركه الحواس، ومن ثمَّ لا يدركه العقل، وكوَّنوا تصورات وأوهام ظنوها من كثرة مطالعتهم لها -لانقطاعهم عن مدارسة الوحي- أنها قطعيات عقلية!!
ثم عرضوها على أهل الإسلام فرحين بها مستبشرين بما فيها من "حكمة" مزعومة فانبرى لهم أهل العلم يبينون لهم أن ما هم عليه ما هو إلا عدول عن النور إلى الظلمات، قائلين لهم: "أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ".
ولكن هيهات... قد صار هؤلاء عند أنفسهم رؤوسًا وأبت عليهم أنفسهم أن يعيدوا دفن نفايات عقول الرومان حيث كان الغرب يدفنها؛ فقادهم شيطانهم إلى أن ينتحلوا قاعدة المحدثين في رد حديث الآحاد إذا خالف القطعيات العقلية في رد كل حجة ترد على "دينهم الجديد"، مع أن الذي أتوا به لا يعدو أن يكون أوهامًا(4).
ولما وجد هؤلاء أن تكلف إجابة لكل نص يخالف منهجهم من المشقة بمكان فقد ابتدعوا أصلاً فاسدًا بالاقتصار على القرآن فيما عرف ببدعة القرآنيين الذين أخبر عنهم -صلى الله عليه وسلم- قبل ظهورهم(5).
ومقصود هؤلاء هو التخلص من سلطان النصوص لإفساح المجال لسلطان الفلسفة، ولكن لما لم يكن لهم في القرآن حيلة اقتصروا في شأنه على التأويل الذي بلغ في بعض الأحيان درجة من التعسف تمثل ردًا صريحًا للقرآن، وأما السنة فخرجوا منها بهذه الحيلة مدعين أن المحدثين أنفسهم قد سلموا بعدم الثقة في نسبة السنة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما تكلموا عن الشذوذ والعلة.
ويلاحظ على طائفة القرآنيين ما يلي:
1- أنهم يصلون ويصومون، ويؤدون سائر شعائر الدين وفق أحاديث آحاد! وذلك مما يبين أن قضية تشككهم في ثبوت السنة ما هو إلا إجراء وقائي للحفاظ على الفلسفة التي استوردوها.
2- أنهم يحتجون على مذاهبهم ليس فقط بأحاديث آحاد، بل بأحاديث آحاد ضعيفة، بل موضوعة كما تحتج المعتزلة على فضل العقل بأحاديث موضوعة.
3- ما أشبة فعل هؤلاء بمن ضحَّى بابنه من أجل إنقاذ ابن عدوه، كل هذا في قالب عقلي خلاب كما جاءت قريش تزعم لأبي طالب أنهم قد حلوا له مشكلة النزاع بين وفائه لدين آبائه ومحبته لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بأن يسلمهم إياه على أن يعطوه بدلاً منه غلامًا نجيبًا! فقال قولته الشهيرة: "أعطيكم ابني تذبحونه وتعطونني ابنكم أغذيه لكم!!".
وليت عقول القرآنيين ومن دار في فلكهم بلغت شيئًا مما بلغه عقل أبي طالب!!
5- ومما سبق يتبن أن القرآنيين، بل كل العقلانيين المنتسبين للإسلام ليسوا في حالة خصومة مع "النص" من حيث المبدأ، وإن كانوا يحاولون إزاحته فيما يتعارض مع ما اقتبسوه من الفلسفة؛ هذا بخلاف من انتسب إلى الفلسفة من المسلمين فإن عامتهم خاصم النص، بل وخاصم الوحي كما بينه أبو حامد الغزالي في "تهافت الفلاسفة".
وممن يعتبر في خصومة مع الوحي بعض العلمانيين في زماننا ممن يطالبون –صراحة- بإعلاء سلطان العقل على القرآن ذاته زاعمين أن تشريعات القرآن خاصة بزمانها وبيئتها كـ"نصر حامد أبو زيد".
6- قام علماء الإسلام بالرد المفحم على القرآنيين مما دفع معظمهم إلى تخفيف حدة بدعتهم إلى أقوال الجامع المشترك بينها تقليص سلطة النص -"لا سيما نصوص السنة؛ لأنها تفصيلية"- لصالح سلطة العقل الفسلفي.
فنشأ القول:
- بعدم حجية سنة الآحاد في العقائد والأحكام، والاقتصار على السنة المتواترة والقرآن.
- وبالاقتصار على المتواتر في باب العقائد مع الإقرار بحجية الآحاد في الأحكام وهو القول الذي ملأ الآفاق برغم مخالفته للكتاب والسنة وهدي السلف، ووافقه هؤلاء الذين يعملون بهذه الأحاديث في غير ما يخالف أصولهم الفلسفية على اضطرابهم فيها.
ومنهم من لم يؤصل لشيء من ذلك، ولكن دلف من قواعد المحدثين في رد حديث الآحاد إذا خالف أيًا مما يأتي:
1- القرآن.
2- السنة الأثبت لا سيما إذا كانت متواترة.
3- العقل.
ورغم أن هذه القواعد متفق عليها من حيث المبدأ إلا أن القوم تركوا تطبيق المحدثين والفقهاء الذين وضعوا هذه القواعد ليردوا من السنة ما خالف أهواءهم بزعم مخالفته للقرآن مع عدم وجود هذه المخالفة، بل مع وجود الحكم ضمنـًا أو صراحة في القرآن فيزعمون أنهم ردوا الحكم من السنة لمخالفته القرآن.
كما يصورون خلافـًا وهميًا بين نصوص السنة وبين بعضها البعض؛ بالإضافة إلى زعم مخالفة العقل، وهو من أوسع شبهاتهم.
ومما ساعد على انتشار هذه الشبهات أن أهل السنة اكتفوا في الأعم الأغلب باستثناء أحوال نادرة برد هؤلاء بلزوم التسليم للسنة دون الخوض معهم في جدال عقلي؛ بينما يتمسك هؤلاء بتشككهم في نسبة هذه السنة إلى الشرع؛ لمخالفتها للقطعيات العقلية(6)!
والتقت هذه البدع مع وجود تيار زندقة كان غرضه من ادعاء التناقض ما هو أبعد من تمرير فكرة دخيلة، بل أرادوا هدم الدين كله.
كما أخطأ بعض الفقهاء فوسموا بعض الأحكام بأنها على خلاف القياس فغذوا هذا الاتجاه دون أن يدروا!!
حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فوجد أن واجب الوقت يحتم عليه بعد إذ أصبح لهؤلاء صولة وجولة أن يفند شبهاتهم حتى العقلي منها فوضع موضوع: "درء تعارض العقل والنقل" على رأس قائمة أولوياته، ولا يكاد يخلو مصنف من مصنفاته من هذا الموضوع فضلاً عن سِفره العظيم الذي يحمل هذا العنوان(7).
وقد بنى ابن تيمية مواجهته لهؤلاء على قاعدتين رئيسيتين:
الأولى: أن النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح، ومن هذا الباب ما سبق أن ذكرناه أن العلماء يضعفون الحديث الذي يناقض العقل القطعي.
ومن الأمثلة التي ظنوا أنها مخالفة للعقل قول المعرى:
يد بخمس مئين من عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تـناقـض ما لنا إلا السكوت عـنه ونـشكو إلى مولانا شدة العـار
فنقل العلامة ابن القيم في كتابه القيم "إعلام الموقعين"(8) ردود العلماء عليه:
فمنهم من قال:
يـد بخمس مـئين من عسجد وديت ولكنها قطعت في ربع دينار
هناك مظلومة غالت بقيمتها وهاهنا ظلمت فهانت عـلى الباري
وأجابه بعضهم نثرًا:
"لما كانت أمينة كانت ثمنيه فلما خانت هانت".
وهذا ما يدل على أن التسرع بنسبة حكم شرعي إلى مناقضة حكم شرعي آخر أو إلى مناقضة العقل لا يطلق لآحاد الناس.
الثانية: والتي لابد منها حتى لا تتحول الأولى إلى تكأة يرُد بها كل صاحب هوى ما لا يتماشى مع هواه؛ أنهم لابد وأن يدركوا أن العقل يأتي بـ"محارات العقول ولا يأتي بمحالاتها"، ومن أمثلة ذلك، حديث: "الذبابة"، فالعقل لا يحيل خلق دواء في الذباب، ولكن يحار في أين هو هذا الدواء ولو أخبره به أحد من البشر لرده من باب عدم وجود شواهد عليه، ولكن إذا أخبر به الشرع لوجب التسليم به، ولا يتشكك في نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لمجرد الاستغراب، ولكن عامة هؤلاء العقلانيين قد عكس المسالة فكذبوا بالحديث إلى أن أثبتته المعامل مع أن هذا الحديث كان أحد الأحاديث التي فتحت للمسلمين قديمًا مجالاً ليتقدموا في علم الصيدلة، وليتوجهوا إلى استخلاص أمصال من الكائنات الحية حتى الضار منها، وما زال ابن تيمية وأبناء مدرسته يواجهون هذه البدعة حتى دحرها الله.
بينما أعاد البعض في زماننا تطبيق نفس المنهج، ولكن مع موضوع مختلف وهو التلفيق بين الإسلام وبين مبادئ الحضارة الأوروبية المعاصرة مما عرف بـ"المدرسة العقلانية الجديدة"، والتي سوف نتناولها في مرة قادمة -بإذن الله-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينبغي أن يُلاحظ هنا أننا نعني كل من اتبع رسولاً من حيث الجملة، وإلا فبعد بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن التسليم لأحد بأنه من أتباع الرسل ما لم يؤمن به -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الكفر بنبي واحد كالكفر بجميع الأنبياء، فكيف بخاتمهم -صلى الله عليه وسلم-؟! قال -تعالى- عن قوم نوح: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:105)، فجعل تكذيبهم لنوح -عليه السلام- تكذيب للأنبياء جميعًا.
(2) أشرنا آنفـًا إلى تحريف الكتب السابقة الذي كان أحد مظاهره مخالفتها للمحسوس فلا حاجة لذكر أمثلة منها.
(3) ينبغي أن نأخذ في الاعتبار هنا التداخل الزمني بين فصول كثير من هذه المعارك.
(4) من القطعيات العقلية عند الخوارج والمرجئة زعمهم: "أن الشيء المركب من أبعاض إذا انتفى بعضه انتفى كله"، وقد بيَّن ابن تيمية فسادها شرعًا وعقلاً في "كتاب الإيمان"، ومن القطعيات العقلية عن نفاة الصفات أن إثبات الصفات لله يقتضي المشابهة، وقد بين ابن تيمية فسادها شرعًا وعقلاً في "التدمرية".
ومن القطعيات العقلية عند كل من القدرية والجبرية استحالة أن يكون الفعل بإرادة العبد وإرادة الرب في آن واحد، فعندهم إثبات أحدهما يستلزم نفي الآخر، وقد رده ابن تيمية في "التدمرية".
(5) عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْد ِيكَرِبَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِىِّ وَلاَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ وَلاَ لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
(6) لا يعني هذا عدم وجود رد مطلقـًا، بل هناك "الرسالة" للشافعي، و"الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد، و"تأويل مختلف الحديث"، و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، و"شرح تأويل مشكل الآثار" للطحاوي.
(7) من الجدير بالذكر أن مناظرة أهل البدع بطريقتهم وإن كان لها أثرًا كبيرًا حال النجاح فيها إلا أنها محاولة محفوفة بالمخاطر جربها آخرون قبل ابن تيمية، منهم: الإمام أبو الحسن الأشعري الذي ظل أربعين سنة يناظر عن منهج الاعتزال، ثم تاب فأراد أن يناظرهم بطريقتهم فخرج بمنهج وسط بين آهل السنة والمعتزلة، وهو الذي اشتهر عنه، ثم رجع عنه في آخر حياته.
والفرق بينه وبين ابن تيمية أن الأشعري كانت معرفة بالحق -آنذاك- إجمالية ومعرفته بالباطل تفصيلية؛ فوقع في خطأين متضادين:
الأول: أنه وافقهم في بعض أصولهم دون أن يدري.
الثاني: أنه ربما رد شيئًا من منهجهم بالكلية لظنه لمخالفته لأهل السنة بينما هو يحتوي على حق وباطل؛ كما بالغ في رد الوجوب والحظر العقليين عند المعتزلة حتى أنكر التحسين والتقبيح العقليين، وهذا بينما أهل السنة وإن ردوا الوجوب والنظر العقليين إلا أنهم يقرون بأن العقل قد يدرك حسن الحسن وقبح القبيح.
بينما شيخ الإسلام تضلع من الحق أولاً فلما خاض المعضلات العقلية أصبح كالطالب الذي يطلب منه دراسة مثال محلول بينما المعتمدون على عقولهم حائرون مضطربون.
(8) وإذا كان ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" قد رد على العقلانيين المعنيين بأبواب العقائد فابن القيم قد رد على الزنادقة الطاعنين على حكمة التشريع.