كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فبإزاء الهجمة التحريضية التي تتولاها فلول اليساريين عبر صحفهم الموسومة إعلامياً "بالصفراء"، قد يكون الاختيار الأصوب هو التجاهل التام؛ بناء على أن قراء هذه الصحف والمجلات معظمهم إن لم يكن كلهم ممن يشتريها ليقتل بها وقتَ السفر في القطارات متسلياً بخروجها عن المألوف تارة، وبصورها العارية تارة أخرى، ولكن مع ضغط المحبين الذين يخشون من أن يـُفهَم هذا السكوت على أنه علامة رضا أو قلة حيلة، نضطر إلى التعامل مع هذه الحملات.
وقد حاولتُ جاهداً أن أتناول هذه الحملة تناولاً جاداً فأبى علي القلمُ إلا بهذه المقالة التي وإن بدت في قالب ساخر إلا أني حسبت أنها قد وَفتْ بكل ما كنتُ أريده في القالب الجاد.
والآن لا أريد منك أيها الأخ الكريم إلا استحضار صورة لا شك أنك مررت بها كثيراً، وهي صورة المسجد السلفي المجاور للمقهى، ولا شك أن هذا يولِّد حالة من التوتر والاحتقان لما في المقاهي من المخالفات الشرعية، ولأن الزيادة في رواد أحدهما تساوي نقصاً في رواد الآخر بصورة أو بأخرى.
وتزداد حدة هذا الاحتقان كلما زادت درجة المخالفات في المقهى لتشمل بعض المحظورات شرعاً وقانوناً، مما يولد لدى أصحاب المقهى درجة من عدم الأمان يجعلهم أكثر حرصاً على مواجهة أي تيار يمكنه أن يساعد على "كشف المستور".
وقبل أن نسترسل في هذا المقال نود أن نشير إلى أن تشبيه الوضع السلفي بالمسجد ليس بتشبيه في الحقيقة، بل هو واقع، وأما تشبيه الحالة اليسارية بالمقهى فليس فيه أي تجنٍّ عليهم؛ حيث يمثل المقهى القاسم المشترك بين جميع أدبيات اليساريين سواء الروايات الخيالية أو حتى التراجم الذاتية؛ فالصورة المثالية للمفكر اليساري هي صورة القطب الذي يجمع حوله "الحرافيش" في مقهى حي شعبي، حيث يجتمعون على شرب "الشيشة" والتي يفضلونها ذات دخان أزرق في كثير من الأحيان -في الروايات على الأقل-، بل إن الروايات اليسارية غالباً ما تصل بالمقهى إلى أن يكون الصورة الشعبية من الملهى الليلي.
إذن فالمقهى جزء أصيل من الفكر والواقع اليساري، إلا أنه اكتسب وضعاً أكثر أهمية في الآونة الأخيرة عندما تحول إلى الموطن الوحيد الذي يمكن أن تجد فيه يسارياً، بعكس فترة الستينيات إلى أواسط السبعينات حيث كان المقهى بالنسبة لليساريين هو الموطن الذي يقضون فيه استراحة المحارب بعد عمل مشحون بالمظاهرات والاضطرابات والتخريبات.
وأما الآن فلم يبق لهم من الماضي الثوري إلا المقاهي وحوانيت الصحف الصفراء التي غالباً ما تحصل على تراخيصها من دول رأسمالية ليبرالية مما يفقدها المصداقية الثورية، فلا يبقى من ظلال الماضي إلا المقاهي، والتي هي بطبيعة الحال مقاهي مُخَطـَّرة من جهة تجميعها لأشباح الثوريين، ومن مصلحة هؤلاء الأشباح أن يلعبوا دائماً دور "المرشد" الذي يكتسب قدراً من الأمان نظير خدماته، وأن يمارس دور "المحرِّض" على كل من يراه خطراً على وجوده، إذن فتشبيه الحالة اليسارية بالمقهى تشبيه مطابق للواقع إلى حد كبير.
ولم يبق من التشبيه إلا اختزال السلفية واليسارية في مسجد ومقهى متجاورين، وهذا هو الآخر ليس فيه كبير خيال، وإلا فالعالم كله أصبح قرية صغيرة.
ولنعد مرة أخرى إلى مثالنا، ولنفترض أن المسجد قد كثر رواده حتى ضاق بهم فافترشوا المساحات أمامه أو احتاجوا إلى استخدام عدد أكبر من مكبرات الصوت مثلاً، ولنرى ماذا يمكن أن يفعله "الحرافيش" في قهوة اليساريين؟
لا أظن أن إصدار قرار كمواجهة سوف يستغرق وقتاً طويلاً من "الحرافيش"، وحتى وإن وجد بينهم معارض أو متردد، فسوف يخرج له من مثقفي الحرافيش من يؤكد له أن هؤلاء القوم من الخطورة بمكان، وأنه خبير بشؤون الجماعات الإسلامية منذ أن كان طالباً في المرحلة الثانوية واختاره مدرس متطرف من هؤلاء ليقرأ القرآن في الإذاعة المدرسية، أو يقرأ من كتاب "رياض الصالحين" لعالم يسمى "النووي"، والذي لم يكتسب هذه الشهرة لدى المتطرفين إلا لوجود رغبة داخلية مكبوتة لدى هؤلاء المتطرفين لامتلاك السلاح النووي وفق نظرية "فرويد".
وربما دعى بعضُهم إلى حوار مع إمام المسجد، ولكنه حوار أشبه بالتحقيق البوليسي في النظم الشمولية، ومن شروط هذا الحوار أن يتم في المقهى حيث كل صاحب دماغ مع "دماغه"، وبطبيعة الحال يرفض إمام المسجد هذا النوع من الحوار مؤكداً حق المسجد الأصيل في عرض دعوته على الناس، لاسيما والناس من حيث الأصل تريد أن تتعرف على كتاب ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، مؤكداً على أهمية أن يتدبر رواد المقهى فيما هم فيه ويعرضوه على الكتاب والسنة، وحينئذ لن يجدواً كبير عناء لاكتشاف مخالفته لهما.
وربما دفع هذا الموقف صاحب فكرة الحوار إلى "فبركة" حوار لا أصل له ليقطع الطريق على كل من يرفض التصعيد الذي صدر قرار بشأنه أصلاً.
ولأن الحرافيش دائماً ما يشعرون بوحشة متبادلة بينهم وبين عامة الناس فهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم وحدهم "المثقفون"، بينما الناس ينظرون إليهم على أنهم "منحرفون". هذا على خلاف حالة المسجد لاسيما إن كان ملتزماً بالسنة، والذي دائماً ما يكون الخطاب فيه جماعياً مجتمعياً، ونظرة الإمام إلى الناس على الأقل من يجلس أمامه في المسجد نظرة احترام وتوقير تقابلها درجة أعلى من الاحترام والتوقير من جمهور المسجد لإمامهم، فليس من الحكمة حينئذ أن يعلن الحرافيش غضبهم من مجرد توسع المسجد بناء أو رسالة، ولكن يسعى الحرافيش إلى تأليب كل الأطراف على المسجد، مع أن الحرافيش في الأصل في حالة عداء مع الجميع.
وعادة ما يكون أول "مـُحرَّض" هو السلطة الحاكمة، رغم أن المقهى الذي نتكلم عنه في مثالنا "خارج على النظام"، والمقهى اليساري الأعم مقهى ثوري في الأصل، إلا أنه لا مانع من إثارة قلق النظام من "ابن لادن جديد" بجوار كل مقهى، وأما المقهى اليساري الكبير فبحسبه أن يحذر النظام من الرموز الأكثر بروزاً على الساحة، ولا بأس بارتداء ثوب أصحاب النظرات الثاقبة الذين يدركون "نظرية التدسس الناعم" عند الإسلاميين لاسيما السلفيين منهم، مع أن السلفيين من أكثر الناس وضوحاً ورفضاً للحلول الوسط من الناحية الفكرية، فأين التدسس الناعم إذن؟َ!
وأما من ناحية الوصول إلى السلطة، فلا أدري هل يدرك الحرافيش أن نظرية الانقلابات نقلها بعض الإسلاميين عن الثوريين والاشتراكيين، ثم رجع معظمهم عنها -بفضل الله-، ودونوا ذلك وسجلوه في الوقت الذي لم يصدر عن الحرافيش أي دراسة من أي نوع فضلاً عن تراجع أو مراجعة لفكرة الصدام عند اليساريين وإلى أي طريق سوف تذهب.
وأما السلفيون فلم يأخذوا بها حينما كانت هي الموضة إعمالاً لقواعد شرعية ليس هذا مجال ذكرها فكيف يعملون بها الآن؟!
مرة أخرى نترك المقهى اليساري الكبير إلى ذلك المقهى الصغير الذي يحاول منع توسيع قاعدة المسجد، فعلى الرغم من أن عدداً لا بأس من رواد هذا المقهى يُستأجرون لمواجهة الإخوان في الانتخابات، إلا أنه لا مانع من تقديم شكوى إلى عضو مجلس الشعب عن الإخوان المسلمين من أن هذا المسجد يوجد به هؤلاء الذين يحرمون الانتخابات ويمنعون الناس من الذهاب إليها.
مع أن السلفيين حينما يعرضون لرفضهم لخوض التجربة البرلمانية لا يسبون ولا يشتمون ولا يلفقون التهم لأفراد جماعة الإخوان، فقط يذكرون المبررات الشرعية والواقعية التي تجعلهم يفضلون العمل الدعوي على عمل سياسي من أهم شروطه المفروضة واقعاً التعامل مع الحرافيش إما تحالفاً وإما مواجهة.
والحال في المقهى اليساري الكبير لن يختلف كثيراً عن حال هذا المقهى الصغير في محاولة التحريض والتحريش بين الاتجاهات الإسلامية، حتى في القضايا التي قـُتِلَت بحثاً وعلم كل فريق ما عند الآخر من حجج وبراهين.
بالعودة مرة أخرى إلى ذلك المقهى الصغير فلا يبعد أن يناشد كنيسة الحي التدخل لعرقلة توسيع المسجد؛ لأن به هؤلاء الذين يكفرون النصارى مع أن هؤلاء الذي يكفرون النصارى قلما يحدث بينهم وبين نصراني نزاع لالتزام كل منهم حده، بينما في المقهى يجلس المسلم والنصراني يلعبان الطاولة فإذا اختلفا على من الرابح ومن الخاسر سب هذا دين ذاك، وذاك دين هذا مما قد يجر إلى ما لا يحمد عقباه.
والأمر في المقهى اليساري الكبير أكثر خطورة حيث الدعوة الدائمة إلى كسر التابوهات لاسيما تابوه الدين، فربما أراد أحدهم أن يثبت يساريته فتنقص دين الآخر لا بغرض الدعوة ولا البيان ولا المجادلة بالتي هي أحسن، بل لمجرد الخروج على المألوف فيجر هذا إلى ما لا يحمد عقباه، وإن كان من باب إحقاق الحق نود أن نشير إلى أن الحرافيش اليساريين وإن كانوا يدعون ليل نهار إلى كسر تابوه الدين إلا أنهم لا يكادون يطبقون ذلك إلا مع الإسلام حتى أن أحد كبار ممثليهم له فيلم الآن يعرض فيه لقضية الوحدة الوطنية، حرص قبل أن يخطو فيه أي خطوة أن يأخذ رأي الكنيسة بينما ظل فيما يخص أمر الإسلام يرفع شعار: "لا دين في الفن ولا فن في الدين" مع أن شعار النصرانية هو الذي يقول: "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وشعار الإسلام يقول: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الأنعام:162).
وعودة أخيرة إلى المقهى الصغير بعد أن استنفذ جهوده وحرض من حرض، فماذا ستكون النتيجة إن تحلى المسجد بالصبر ولجأ إلى الدعاء، وحرص على أن تكون النية هي الدعوة إلى الله لا إلى النفس، وحرص على توضيح الصورة، ورفض الانزلاق في الكمائن والشراك التي نصبها المقهى؟
فغالباً ما يتم للمسجد ما أراد -بفضل الله تبارك وتعالى-، وإن حدث تقصير في شيء من ذلك فغالباً ما يؤدي ذلك إلى منع التوسع المراد، بل ربما أدى إلى ما هو أسوأ من ذلك.
والأمر فيما يتعلق بالمقهى اليساري الكبير لا يخرج عن هذه القاعدة والتي بينها الله -تعالى- بقوله: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)(آل عمران:120)، فعلى جميع الدعاة أن يتحصنوا بالصبر، ويتسلحوا بالتقوى، وأن يستمروا في بيان منهج الإسلام بشموله وعمومه دون أن يستغرقوا في الرد على أقوام يكررون نفس الشبهات في نفس القضايا على مدار قرنين أو أكثر من الزمان، مع كثرة ما كتب ودُوِّن وسُجِّل في معالجة هذه القضايا.
فلسنا في حاجة إلى أن نعيد ذلك لاسيما على صفحات جرائدهم ومجلاتهم، لاسيما مع عدم ثقتنا في دقة نقلهم، ولاسيما أن نشر هذا سيكون جنباُ إلى جنب مع الصور العارية والمقالات الماجنة.
بيد أننا لا ينبغي أن نغلق باب المناقشة بالحسنى أمام أي فرد مهما يكون، ولكن يكفي لمن كان باحثاً عن الحق أن نرشده إلى المواطن التي عالج فيها علماء الإسلام هذه الشبهات، أو حتى نجيبه هو إجابة فردية بعيداً عن المقاهي الزرقاء والصحف الصفراء.
نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.