الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 09 سبتمبر 2025 - 17 ربيع الأول 1447هـ

نصائح وضوابط إصلاحية (59)

كتبه/ سامح بسيوني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

حسن اكتشاف الطاقات وبناء الكوادر: 

يُعد الاهتمام بالشباب واكتشاف الطاقات فيهم، وإبراز الكوادر منهم مع حسن الاعتناء بهم، والإدراك المبكر لقدراتهم ثم صقلها بالمهارات المطلوبة وتوجيهها في المسار الصحيح داخل المؤسسة أو الكيان الإصلاحي -لاسيما في المجالات التي فيها قصور واحتياج واضح- هو الرصيد الحقيقي المؤدي لاستمرارية مسار المؤسسة الإصلاحي؛ فهو يسهم في تميز الكيان وقوة تأثيره في المجتمع؛ لأنه يساعد على جودة وسرعة إنجاز المهام، وَفْقًا للأهداف الإصلاحية مع ديمومة ذلك.

والعكس بالعكس؛ فعُقم اكتشاف الطاقات وهدم الكوادر يؤدي إلى الاضمحلال وفقد استمرارية تأثير الكيان عبر الزمان، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يهتم بهذا الأمر اهتمامًا كبيرًا، وكان له كفاءة لا نظير لها في تلمس قدرات أصحابه ومواهبهم في مختلف صورها، وفي استنطاق جميع طاقات أصحابه، ووضع كل فرد منهم في مكانه المناسب في الوقت المناسب، حتى صار كلُّ واحد منهم قائدًا متميزًا في مجاله، يستشعر أعلى درجات المسئولية، وينغمس في العمل لفكرته بكلِّ كيانه ووجدانه، ويشارك ويبدع ويبادر بتقديم أفكاره ورأيه دون حتى انتظار أن يُطلب ذلك منه. 

ولقد ضرب -صلى الله عليه وسلم- أمثلة رائعة في توظيف الإمكانات وتوجيه الطاقات، وتفجير الإبداع في قلوب ونفوس الصحابة من خلال منهجه القويم في اكتشاف طاقات أصحابه، والتعرف على قدراتهم، ومواطن التميز ونقاط الضعف عند كلِّ واحد منهم، وذلك عبر مقومات مهمة يحتاج إليها كلُّ قائد في مؤسسته الإصلاحية.

المقومات اللازمة في المسئولين لضمان حسن اكتشاف الكوادر: 

1- قوة الملاحظة وحسن الانتباه. 

2- البصيرة والقدرة على التمييز. 

3- حسن التوجيه، والقدرة على التحفيز وتفجير الطاقات الكامنة.

4- حسن التوظيف للكفاءات وَفْقًا للمهارات والمواصفات المتوافقة مع منهجية الكيان الإصلاحي، بعيدًا عن العواطف أو الحسابات الخاصة.

وقد ظهر ذلك كثيرًا في سيرته -صلى الله عليه وسلم- مثل: 

ما كان منه -صلى الله عليه وسلم- مع أبي محذورة -رضي الله عنه-؛ فقد روى النسائي والدارقطني، وغيرهما، بروايات مختلفة عن أبي محذورة -رضي الله عنه- أنه قال: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ حُنَيْنٍ، خَرَجْتُ عَاشِرَ عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ نَطْلُبُهُمْ، فَسَمِعْنَاهُمْ يُؤَذِّنُونَ بِالصَّلَاةِ فَقُمْنَا نُؤَذِّنُ نَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ سَمِعْتُ فِي هَؤُلَاءِ تَأْذِينَ إِنْسَانٍ حَسَنِ الصَّوْتِ)، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَأَذَّنَّا رَجُلٌ رَجُلٌ وَكُنْتُ آخِرَهُمْ، فَقَالَ حِينَ أَذَّنْتُ: (تَعَالَ)، فَأَجْلَسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِي وَبَرَّكَ عَلَيَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: (اذْهَبْ فَأَذِّنْ عِنْدَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ)، قُلْتُ كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ‌فَعَلَّمَنِي ‌كَمَا ‌تُؤَذِّنُونَ ‌الْآنَ ‌بِهَا. (رواه النسائي وابن ماجه، وصححه الألباني).

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لشِدَّة انتباه وقوة ملاحظته وحسن تعامله اكتشف هذا الكادر، ووجَّه مساره إلى المسار الصحيح، وعلَّمه ووظَّفه فيما يصلح له ويتناسب مع مهاراته، وأحسن استغلال هذا الموقف العارض برؤيته القيادية التربوية؛ ليحول هذا الفتى صاحب المهارة والطاقة من فتى يلهو مع أقرانه إلى مؤذن في البيت الحرام! 

- اكتشافه -صلى الله عليه وسلم- لشخصية زيد بن ثابت، فعندما رأى -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت أُعجب به، وأدرك على الفور موهبته في الفهم السريع، والحفظ القوي، والذاكرة الحية، فأمره بتعلم لغة يهود؛ قال زيد: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ" (أخرجه الترمذي، وصححه الألباني)

- اكتشافه -صلى الله عليه وسلم- لشخصية عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، والذي كان نحيلَ الجسم ضامرًا، دقيق الساقين قصيرًا، لكن كان عنده شغف بالتحصيل والعلم؛ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منبهًا إياه لموهبته: (‌إِنَّكَ ‌غُلَامٌ ‌مُعَلَّمٌ) (أخرجه أحمد، وصححه الألباني)، وشجَّعه -صلى الله عليه وسلم- على التفرغ للعلم، وقرَّبه منه حتى كان أشبه بصاحب سره، لا يفارقه في سفر ولا حضر، ويدور الزمان بعد ذلك ويصبح ذلك الشاب الراعي المغمور من أئمة الصحابة وعلمائهم وقُرَّائهم، ويجعله الرسول للناس إمامًا، ويوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود -رضي الله عنه-، ويقول لهم: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ ‌الْقُرْآنَ ‌غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ) (أخرجه أحمد، وصححه الألباني)

- اختياره -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- لقيادة الجيش المتجه لدومة الجندل لقتال الروم، مع وجود مَن هو أقدم منه في الجيش، وفيهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-، والمسلمون كانوا ينظرون إلى أسامة -وإلى والده زيد- من قبل بعيون الموقع والقبيلة، ورسول الله كان ينظر إليهما بعيني القائد الذي يبحث عن الموهبة والكفاءة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.