الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 03 سبتمبر 2025 - 11 ربيع الأول 1447هـ

الوصايا النبوية (34) (الوصية بأربع صفات) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ) (رواه أحمد، وصحَّحه الألباني).

مجمل الوصية:

حسنُ الخلقِ يرقى بصاحبِه إلى أعلى المراتبِ في الدنيا والآخرةِ، ومن رزقَ حسن الخلق فلا عليه مما فاته من الدنيا؛ ولذا أوصى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هذه الوصيةِ بأربعِ خصالٍ وصفاتٍ، إذا اتَّصفَ المسلمُ وتخلَّقَ بهن، فلا بأسَ بما يضيعُ من الدنيا من متعٍ، إن كان قد اتَّصفَ بتلك الصفاتِ. فهي غنيمةٌ باردةٌ من حازَها لا ينبغي له أن يبكي ما فاته من حطامِ الدنيا، سواءٌ كان مالًا أو ولدًا أو عقارًا أو جاهًا، فخصالُ الخيرِ تبقى وحطامُ الدنيا زائلٌ، وخصالُ الخيرِ تنفعُ صاحبَها في الدنيا بمحبةِ الخلقِ له وحسنِ الثناءِ عليه، وتنفعُه في الآخرةِ بأن مكافأتها الجنة.

الخصلة الأولى: (حِفْظُ أَمَانَةٍ):

- المقصودُ بالأمانةِ: قال الكفويُّ في تعريفِ الأمانةِ: "كلُّ ما افترضَ على العبادِ فهو أمانةٌ، كصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وأداءِ دينٍ، وأوكدها: الودائعُ، وأوكدُ الودائعِ: كتمُ الأسرارِ".

- فأهمُّ الأماناتِ حقُّ اللهِ في التوحيدِ والعبادةِ، وطاعةُ رسوله في الاتباعِ والموافقةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27).

- ومن الأماناتِ في حقوقِ البشرِ: الأمانةُ في البيوعِ والديونِ والمواريثِ والرهونِ والودائعِ التي تُعطى للإنسانِ ليحفظَها لأهلِها، والأمانةُ في الشهادةِ، والأمانةُ في الكتابةِ، فلا يكونُ فيها تغييرٌ ولا تبديلٌ ولا زيادةٌ ولا نقصٌ، والأمانةُ في الأسرارِ التي يستأمنُ الإنسانُ على حفظِها وعدمِ إفشائِها: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصحَّحه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه). (الإشارةُ إلى قصةِ والدِ الإمامِ عبد الله بن المبارك، وكيف كانت الأمانةُ سببًا في زواجه من ابنةِ مولاه).

- ومن الأمانة: الأمانةُ في استعمالِ السمعِ والبصرِ وسائرِ الحواسِ (فلا يستعملُها فيما يغضبُ اللهَ؛ فالعينُ أمانةٌ يجبُ عليه أن يغضَّها عن الحرامِ، والأذنُ أمانةٌ يجبُ عليه أن يجنِّبَها سماعَ الحرامِ، واليدُ أمانةٌ، والرجلُ أمانةٌ، واللسانُ أمانةٌ، إلخ)، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36).

- حاجتُنا إلى نشرِ خلقِ الأمانةِ في زمانٍ قلَّتْ فيه الأمانةُ، وقلَّ أصحابُها كما أخبرَ الصادقُ المصدوقُ: (وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا) (رواه البخاري).

الخصلة الثانية: (وَصِدْقُ حَدِيثٍ):

- للصدقِ منزلةٌ عظيمةٌ وأهميةٌ كبيرةٌ، فقد أوصى اللهُ به عبادَه المؤمنينَ وأمرَهم بأن يكونوا مع أهلِ الصدقِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119).

قال السعديُّ -رحمه الله-: "أي كونوا مع الصادقينَ في أقوالِهم وأفعالِهم وأحوالِهم".

- وقد أوصى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بصدقِ الحديثِ وحذَّرَ من الكذب: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) (متفق عليه).

قال بعضُ الصالحينَ: "عليك بالصدقِ حيث تخافُ أنه يضرُّك فإنه ينفعُك، ودعِ الكذبَ حيث ترى أنه ينفعُك فإنه يضرُّك".

- ومتى انتشرَ صدقُ الحديثِ في تعاملِ الناسِ بعضِهم مع بعضٍ عظمتِ الخيراتُ، وكثرتِ البركاتُ: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) (محمد: 21).

- وعاقبةُ صدقِ الحديثِ وآثارُه عظيمةٌ: قال يوسفُ بن أسباطَ: "يرزقُ الصدوقُ ثلاثَ خصالٍ: الحلاوةَ، والملاحةَ، والمهابةَ". وقال الفضيلُ: "لم يتزيَّنِ الناسُ بشيءٍ أفضلَ من الصدقِ وطلبِ الحلالِ" (شعب الإيمان).

ورويَ أن ربعيَّ بن حراشٍ لم يكذبْ كذبةً قطُّ، فجاءَ عريفُ الحجاجِ، فقال: أيها الأميرُ، إن الناسَ يزعمونَ أن ربعيَّ بن حراشٍ لم يكذبْ كذبةً قطُّ، وقد قدِمَ ابناه من خراسانَ وهما عاصيانِ، فقال الحجاجُ: عليَّ به، فلما جاءَ قال: أيها الشيخُ، ما فعلَ ابناكَ؟ قال: المستعانُ اللهُ، خلَّفتُهما في البيتِ. قال: لا جرمَ واللهِ لا أسوؤُكَ فيهما، هما لكَ. (مكارم الأخلاق).

الخصلة الثالثة: (وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ):

- (وَحُسْنُ الْخَلِيقَةِ) هو من أعظمِ ما مُدِحَ به سيدُ الناسِ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4).

- (وَحُسْنُ الْخَلِيقَةِ) يثقِّلُ الميزانَ يومَ القيامةِ: عن أبي الدرداءِ -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَيَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ) (رواه الترمذي وصحَّحه الألباني).

- (وَحُسْنُ الْخَلِيقَةِ) أكثرُ ما يدخلُ الناسَ الجنةَ حسنُ الخلقِ: عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سئلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثرِ ما يدخلُ الناسَ الجنةَ، فقال: (تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ) (رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني)(1).

- (وَحُسْنُ الْخَلِيقَةِ) من أهمِّ عواملِ النجاحِ، فكثيرٌ من الناسِ (علماءُ، أذكياءُ، مبدعونَ) يتركُ الناسُ ما عندهم من الخيرِ بسببِ سوءِ خلقِهم؛ قال الفضيلُ بن عياضٍ -رحمه الله-: "لأن يصحبَني فاجرٌ حسنُ الخلقِ، أحبُّ إليَّ من أن يصحبَني عابدٌ سيئُ الخلقِ". وعن أمِّ الدرداءِ -رضي الله عنها- قالت: "كان أبو الدرداءِ ليلةً يصلِّي فجعلَ يبكي وهو يقولُ: اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي حَتَّى أَصْبَحَ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ مَا كَانَ دُعَاؤُكَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ إِلَّا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يُحَسِّنُ خُلُقَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ حُسْنُ الْخُلُقِ الْجَنَّةَ، وَيُسِيءُ خُلُقَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ سُوءُ خُلُقِهِ النَّارَ" (شعب الإيمان).

الخصلة الرابعة: (وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ):

- (وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ) طلبُ الحلالِ وتحرِّيه أمرٌ واجبٌ وحتمٌ لازمٌ، وإن حقًّا على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ أن يتحرَّى الطيِّبَ من الكسبِ، والنزيهَ من العملِ، ليأكلَ حلالًا وينفقَ في حلالٍ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) (المؤمنون: 51)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172)، (لَنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- من العجبِ حالُ بعضِ الناسِ حيث يخافُ من أكلِ الحلالِ خشيةَ المرضِ، ولا يتورَّعُ ولا يخافُ من أكلِ الحرامِ الذي عاقبتُه النارُ: (لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي وحسَّنه).

- (عِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ) فيه: طيبُ المكاسبِ، وصلاحُ الأموالِ، وسلامةُ الدينِ، وصونُ العرضِ، وجمالُ الوجهِ، ومقامُ العزِّ. وعن وهبِ بن منبهٍ -رحمه الله- قال: "من سرَّه أن يستجيبَ اللهُ دعوتَه فليطيِّبْ طعمتَه". وسئلَ بعضُ الصالحينَ: "بم تلينُ القلوبُ؟ فقال: بأكلِ الحلالِ".

- إن أكلَ الحرامِ يعمي البصيرةَ، ويضعفُ الدينَ، ويقسِّي القلبَ، ويقعدُ الجوارحَ عن الطاعاتِ، ويحجبُ الدعاءَ: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه-: أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون: 51)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 172). ثم ذكرَ الرجلَ يطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السماءِ: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغذيَ بالحرامِ، فأنى يستجابُ لذلكَ.

قال الحافظُ ابن رجب -رحمه الله-: "فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْعَمَلُ وَلَا يَزْكُو إِلَّا بِأَكْلِ الْحَلَالِ وَإِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ وَيَمْنَعُ قَبُولَهُ".

خاتمة: عود على بدء:

- أوصى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هذه الوصيةِ بأربعِ خصالٍ وصفاتٍ، إذا اتَّصفَ المسلمُ وتخلَّقَ بهن، فلا بأسَ بما يضيعُ من الدنيا من متعٍ، إن كان قد اتَّصفَ بتلك الصفاتِ: (أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ).  

رزقَنا اللهُ وإياكم هذه الخصالَ، وطهَّرَنا وإياكم من قبيحِ الخصالِ والأقوالِ والأفعالِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جمعَ بعضُ العلماءِ علامات حسن الخلق فقال: "هو أن يكونَ الإنسانُ كثيرَ الحياءِ، قليلَ الأذى، صدوقَ اللسانِ، قليلَ الكلامِ، كثيرَ العملِ، قليلَ الزللِ، برًّا وصولًا، وقورًا صبورًا، شكورًا رضيًّا، حليمًا رفيقًا، عفيفًا شفيقًا، لا لعَّانًا ولا سبَّابًا، ولا نمَّامًا ولا مغتابًا، ولا عجولًا ولا حقودًا، ولا بخيلًا ولا حسودًا، بشَّاشًا هشَّاشًا، يحبُّ في اللهِ، ويبغضُ في اللهِ، ويرضى في اللهِ، ويغضبُ في اللهِ".