كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ -رضي اللهُ عنها-، قالت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) (رواه البخاري)(1)، وعنها قالت: ذُكِرَ عندَ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- هَالِكٌ بسوءٍ، فقال: (لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ) (أخرجه النسائي، وصححه الألباني). وعندَ ابنِ حِبَّانَ: (فَإِنَّ مَا قَدَّمُوهُ مِنْ أَعْمَالٍ سَيُحَاسِبُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا)(2).
مجمل الوصية:
مَن ماتَ مِنَ النَّاسِ فقدْ أَفْضَى إِلَى رَبِّهِ سبحانه، وهو الذي يُحَاسِبُهُ على أَعْمَالِهِ، وقد أَوْصَى النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- أُمَّتَهُ بِحُسْنِ المعاملةِ معَ الأَحْيَاءِ والأَمْوَاتِ كذلك. وفي هذا الحديثِ تَحْكِي أُمُّ المُؤْمِنِينَ عائشةُ -رضي اللهُ عنها- أَنَّهُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- شَخْصٌ مَيِّتٌ بِشَرٍّ، فقال -صلى اللهُ عليه وسلم-: (لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ)، أي: لا تَذْكُرُوا أَمْوَاتَكُمْ إِلَّا بِالْخَيْرِ؛ وذلك لأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى الجزاءِ والحسابِ.
كلُّنا سيكونُ من الأمواتِ يومًا:
فقد قَضَى اللَّهُ -جلَّ وعلا- على خَلْقِهِ بالموتِ، وجعلَ الموتَ حَقًّا على كلِّ حَيٍّ، لا مَحِيدَ عنه: قال اللهُ تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ? وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 185).
وعندَ الاحتضارِ تبدأُ حقوقٌ جديدةٌ للمسلمِ على إخوانِهِ، كَرَفِيقٍ صَالِحٍ يُؤْنِسُهُ ويُثَبِّتُهُ، ويُلَقِّنُهُ: "لا إلهَ إلا اللهُ"؛ طَلَبًا لِحُسْنِ الخاتمةِ، ثم إذا خَرَجَتِ الروحُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُغَمِّضُوا عَيْنَيْهِ، ويُغَطُّوهُ صِيَانَةً له، ثم تُنَفَّذُ وصيتُهُ، ويُغَسَّلُ ويُكَفَّنُ ويُصَلَّى عليه ويُدْفَنُ، وتُحِدُّ عليه زوجتُهُ، ويُسَدَّدُ دَيْنُهُ، وتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ.
وهكذا تنتهي الدنيا في حقِّ الإنسانِ، وقد أَقْبَلَ على الحسابِ والجزاءِ على ما قَدَّمَ في هذه الحياةِ الدنيا: قال -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس: 12).
ولا تَنْقَطِعُ حقوقُ المسلمِ بالموتِ، بل تَبْقَى بعضُ حقوقه على الأحياءِ من أهلِهِ وغيرِهم إلى يومِ القيامةِ، ومنها هذا الحقُّ الكبيرُ (ذِكْرُهُ بِالْخَيْرِ): قال النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا)، وقال -صلى اللهُ عليه وسلم-: (لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ) (سبق).
لماذا النَّهْيُ عن سبِّ الأمواتِ؟
الأمواتُ قد انقطعتْ علاقتُكَ المباشرةُ بهم، وسَبُّهُمْ إيذاءٌ لهم بغيرِ سببٍ: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (الأحزاب: 58)، وقال رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم-: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) (رواه مسلم). (هذا في حقِّ المسلمِ الحَيِّ؛ فكيف بالميتِ الذي لا يَمْلِكُ الدفاعَ عن نفسِهِ؟!).
ذِكْرُ مساوئِ الموتى ليس من شِيَمِ الكرامِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) (متفقٌ عليه).
إنْ لم تَدْعُ للميتِ فلا تُؤْذِهِ بالسبِّ: ففي حديثِ عائشةَ -رضي الله عنها-: (إِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ، لَا تَقَعُوا فِيهِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
بل سَبُّ الأمواتِ يَحْدُثُ حُزْنًا في قلوبِ أقاربِهم ويَتَسَبَّبُ في التَّشَاحُنِ والتَّبَاغُضِ: قال النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
ثم هل تَرْضَى أنْ يَسُبَّكَ الناسُ بعدَ موتِكَ؟ قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) (رواه مسلم).
اتركْ أثرًا صالحًا قبلَ الرحيلِ:
سؤالٌ وجِّهَهُ لنفسِكَ الآنَ: ما آثارُكَ الطيبةُ بعدَ الموتِ لِيَذْكُرَكَ الناسُ بالخيرِ؟ فكم غَرْسًا للخيرِ غَرَسْتَ؟ وكم ضَالًّا عن الحقِّ هَدَيْتَ؟ وكم سَبِيلًا من سُبُلِ الخيرِ سَبَلْتَ؟: قال -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ).
سَلْ نفسَكَ: أين أنا من أصحابِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- الذين فَتَحُوا البلادَ ونَشَرُوا الإسلامَ والدينَ والسُّنةَ؟ وأين أنا من الأئمةِ الذين ملأوا الأرضَ عِلْمًا ودعوةً وتَصَانِيفًا وعُلُومًا، الذين ما زالتِ الدنيا تَتَرَضَّى وتَتَرَحَّمُ عليهم؟ (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) (الحشر: 10).
وقال الشاعرُ:
قـد مـاتَ قـومٌ وما ماتَتْ مَكَارِمُهُـمْ وعاشَ قومٌ وهُمْ في الناسِ أَمْوَاتُ
احذرْ أنْ تَتْرُكَ أَثَرًا فاسدًا بعدَ موتِكَ، فليس السِّبابُ واللعناتُ من الناسِ وحدها سَتُلاحِقُكَ، بل الآثارُ السيئةُ في الدنيا والآخرةِ: قال النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) (رواه مسلم).
مشروعية الكلامِ بالسوءِ في أعداءِ الدينِ والفاجرينَ:
النَّهْيُ عن سَبِّ الأمواتِ متعلقٌ بالمسلمينَ المستورينَ، وأما الفاسقونَ منهم، والكافرونَ والمنافقونَ، فيجوزُ من بابِ التحذيرِ من حالِهم وفضحِ مَسْلَكِهِمْ وطَرِيقِهِمْ: وعن أَنَسٍ -رضي اللهُ عنه-، قال: مَرُّوا بِجِنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فقال النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (وَجَبَتْ)، ثم مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فقال: (وَجَبَتْ)، فقال عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ -رضي اللهُ عنه-: ما وَجَبَتْ؟ قال: (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ) (متفقٌ عليه).
الفرحُ بِمَهْلَكِ أعداءِ الإسلامِ وأهلِ البدعِ المغلظةِ وأهلِ المجاهرةِ بالفجورِ أمرٌ مشروعٌ، وهو من نِعَمِ اللهِ على عبادِهِ وعلى الشجرِ والدوابِّ، بل يُشَرَّعُ الفرحُ بما يَحِلُّ بهم من مصائبَ: عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَالَ: (مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: (الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) (متفق عليه).
خاتمة: عودٌ على بدءٍ:
وصيةٌ غاليةٌ من أعظمِ ناصحٍ، بأنَّ حقوقَ المسلمِ لا تَنْقَطِعُ بالموتِ، بل تَبْقَى بعضُ حقوقه على الأحياءِ إلى يومِ القيامةِ، ومنها: قال النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ).
اللهمَّ ارْحَمْ مَوْتَانَا وموتى المسلمينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما ذُكِرَ في العنوانِ قد رَوَاهُ أبو داودَ والترمذيُّ والحاكمُ والبيهقيُّ عن ابنِ عمرَ -رضي اللهُ عنهما- عن النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- أنه قال: (اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ) (لكنه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ في سنده عِمْرَانَ بنَ أَنَسٍ المكيَّ؛ قال فيه البخاريُّ: منكرُ الحديثِ. وقال العقيليُّ: لا يُتَابَعُ على حديثِهِ)، والرواية الصحيحة: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ).
(2) قال العلماءُ: "فلم يَنْهَهُمُ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- عن ذِكْرِ المَيِّتِ بالشَّرِّ، والنَّهْيَ عن سَبِّ الأمواتِ هو في غَيْرِ المنافقِ وسائرِ الكفَّارِ، وفي غَيْرِ المتظاهرِ بِفِسْقٍ أو بِدْعَةٍ؛ فأَمَّا المنافقُ والكافرُ والفاسقُ وصاحبُ البدعةِ فلا يَحْرُمُ ذِكْرُهُمْ بالشَّرِّ؛ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ طَرِيقَتِهِمْ، ومن الاقتداءِ بِآثَارِهِمْ، والتَّخَلُّقِ بِأَخْلاقِهِمْ، ومنه ذلك الحديثُ الذي أَثْنَوْا على المَيِّتِ فيه شَرًّا؛ لأنَّه كان مَشْهُورًا بِنِفَاقٍ، أو نَحْوِهِ؛ إذَنْ فالدَّاعِي لذِكْرِ الأمواتِ بالشَّرِّ هو حاجةٌ شَرْعِيَّةٌ إلى جَرْحِهِ".