كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلم يأتِ في القرآن الكريم النصُّ الصريح على العروج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات في ليلة الإسراء والمعراج، ولكن وردت الآياتُ في سورة النجم التي فيها ذكر أمور من لوازمها وقوع العروج. وقد جاءت حادثة الإسراء، التي أُقيمَ الدليلُ على وقوعها على الأرض، لتفتح الطريق واسعًا للتصديق برحلة المعراج إلى السماء؛ فالتسليمُ بحدوث الإسراء مقدمةٌ نتيجتها التصديق بحدوث المعراج، فالذي خرق قانونَ قطع المسافات على الأرض قادرٌ على خرق قانون الارتفاع إلى السماء، فمن صنع الحدثَ المُعجِزَ الأول على الأرض قادرٌ على صنع الحدث المُعجِزَ الثاني في السماء.
فالمعراجُ تقف عنده العقولُ متحيرةً، لكنها تعلم أن اللهَ -تعالى- لا يعجزه شيء؛ لذا تُرِك الإيمانُ به لقوة إيمان العبد وتصديقه بالغيبيات، وإلا فإننا لم نرَ (سدرةَ المنتهى)، ولا (جنةَ المأوى) اللتين ورد في القرآن عروجُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إليهما؛ لذا قال العلماء: من كذَّب بالإسراء كفر؛ لأنه كذَّب بالنص القرآني الصريح: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1)، ولكن من شكَّ في أمر المعراج فلا يكفر بذلك، بل هو ضالٌّ يَفسق؛ إذ ثبت المعراجُ في القرآن بدلالة الالتزام -كما سنبين-، كما ثبتت تفاصيلُه في السُّنَّة النبوية الصحيحة عند البخاري ومسلم، وغيرهما، وهي وإن لم تبلغ حد التواتر، لكن تلقتها الأمة قاطبةً جيلًا بعد جيلٍ بالتسليم والقبول: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء: 115). والعقلُ إذا تأمَّل وتدبَّر وآمن، وبلغ قمةَ اليقين؛ وجب عليه التصديق والالتزام بكل ما يُخبَر به بعد ذلك من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل فيها، وهذه من صفات المتقين: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب) (البقرة: 2، 3)؛ لذا قالوا: إن هذا من رحمة الله بخلقه، فالإسراءُ الذي أُقيم الدليلُ الماديُّ للناس عليه أتى به القرآنُ صراحةً فلا عذرَ فيه.
أما الأمر الذي قد تحتار فيه العقولُ بعضَ الشيء فقد تُرك لمدى اليقين الإيماني، أو مدى التسليم بالمقدمة التي تليها النتيجة الأخرى؛ أما أهل الكفر والعناد فلا رجاء فيهم ولو عُرِجَ بهم أنفسهم إلى السماء: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ . لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (الحجر: 14-15).
آيات المعراج في سورة النجم:
قال الله -تعالى- في صدر سورة النجم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى . مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 1-18).
- قوله -تعالى-: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى): قسم بالنجم إذا سقط وغرب. عن مجاهد: يعني بالنجم الثُّرَيَّا إذا سقط مع الفجر، وكذا رُوِي عن ابن عباس وسفيان الثوري، واختاره ابن جرير.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذه الآية كقوله -تعالى-: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ . إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ . لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 75-79). وقال الشعبي وغيره: "الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق".
- وقوله -تعالى-: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى): "هذا هو المقسوم عليه، وهو الشهادة للرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه راشد تابع للحق ليس بضالٍّ. والضالُّ: هو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره. فنزَّه الله رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال"؛ ولهذا قال -تعالى-: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم: 3) أي: ما يقول قولًا عن هوى وغرض، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى) (النجم: 4) أي: إنما يقول ما أُمِرَ به، يبلِّغه إلى الناس كاملًا موفورًا من غير زيادة ولا نقصان.
كما روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: تُكْتَبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الرِّضَاءِ وَالْغَضَبِ؟، قَالَ: فَأَمْسَكْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- وقوله -تعالى-: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى): يخبر -تعالى- عن رسوله ? أن علمه الذي جاء به إلى الناس علَّمه إياه شديد القوى، وهو جبريل -عليه السلام-، كما قال -تعالى- في سورة التكوير عن جبريل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ . مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير: 19-21).
- قوله -تعالى-: (ذُو مِرَّةٍ): أي: ذو قوة. قاله مجاهد والحسن وابن زيد. وقال ابن عباس: ذو منظر حسن. وقال قتادة: ذو خُلُقٍ طويل حسن. قال ابن كثير: "ولا منافاة بين القولين؛ فإنه -عليه السلام- ذو منظر حسن وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية ابن عمر وأبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
- وقوله: (فَاسْتَوَى): يعني جبريل -عليه السلام-؛ قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس.
- وقوله: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى): يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى؛ قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة: والأفق الأعلى الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد: هو مطلع الشمس. وقال قتادة: هو الذي يأتي من النهار، وكذا قال ابن زيد وغيرهم.
- وقوله -تعالى-: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ): قال ابن كثير: "أي: فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد -صلى الله عليه وسلم- قاب قوسين؛ أي: بقدرهما إذا مُدَّا؛ قاله مجاهد وقتادة. وقد قيل: إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها".
- وقوله: (أَوْ أَدْنَى) أي: على مسافة قريبة جدًّا من النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: "هذه الصيغة تُستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه، كقوله -تعالى-: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة: 74)؛ أي: ما هي بألين من الحجارة، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة. وكذا قوله: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) (النساء: 77)، وقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (الصافات: 147)، أي: ليسوا أقل منها، بل هم مائة ألف حقيقة ويزيدون عليها؛ فهذا تحقيق للمخبر عنه، لا شك ولا تردد، فإن هذا ممتنع ههنا. وهكذا هذه الآية: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم: 9). وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد -صلى الله عليه وسلم- إنما هو جبريل -عليه السلام-، هو قول أم المؤمنين عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة.
- وقوله: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى): معناه: فأوحى جبريل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده ما أوحى بواسطة جبريل، وكلا المعنيين صحيح.
- وقوله: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى): قال ناصر السعدي: "أي: اتفق فؤاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه، وأنه تواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره. وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه الله إليه، وأنه تلقاه منه تلقِّيًا لا شك فيه، ولا شبهة، ولا ريب، فلم يكذب فؤاده ما رأى بصره، ولم يشكَّ بذلك. ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به من آيات الله العظيمة، وأنه تيقنه حقًّا بقلبه ورؤيته".
- وقوله -تعالى-: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى): أي: أفتجادلونه.
- وقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى): أي: هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وكانت في ليلة الإسراء.
وعند مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى): رأى جبريل -عليه السلام-.
وروى أحمد بسند جوَّده ابن كثير عن ابن مسعود مرفوعًا: "رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح"، وروى أحمد أيضًا مرفوعًا: "رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينثر منه ريش التهاويل من الدر والياقوت"، قال ابن كثير: "وهذا إسناد جيد قوي".
وعن ابن مسعود موقوفًا بسند حسنه ابن كثير قال: "رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به أعلم.
وقال مجاهد: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل في صورته مرتين.
وكذا قال قتادة والربيع بن أنس وغيرهم.
وقد جاء التأكيد على هذا الأمر باستخدام (لام التأكيد)، و(قد)؛ أما المرة الأولى التي رأى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- جبريل -عليه السلام- على صورته التي خلقه الله -تعالى- عليها فمذكورة في سورة التكوير: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (التكوير: 23).
قال ابن كثير: "يعني: ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله -عز وجل- على الصورة التي خلقه الله عليها، وله ستمائة جناح، (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي: البين. وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء، وهي المذكورة في قوله: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (تفسير ابن كثير).
- وقوله -تعالى-: (عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى): وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال الشيخ ناصر السعدي: "وهي شجرة عظيمة جدًّا فوق السماء السابعة، سميت سدرة المنتهى؛ لأنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله من الوحي وغيره، أو لانتهاء علم الخلق إليها؛ أي: لكونها فوق السماوات والأرض، فهي المنتهى في علوها أو لغير ذلك، والله أعلم. فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- جبريل في ذلك المكان".
- والسِّدْر -بسين مكسورة مشددة والدال ساكنة-: هو شجر النبق. واحدته: سدرة (المعجم الوجيز). وفي حديث المعراج في الصحيح مرفوعًا: (ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ) (متفق عليه). والقلال: جمع قلة، وهَجَر: بفتح الهاء والجيم قرية قريبة من المدينة.
- وقوله -تعالى-: (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى): أي: عند تلك الشجرة. (جَنَّةُ الْمَأْوَى) أي: الجنة الجامعة لكل نعيم، بحيث كانت محلًّا تنتهي إليه الأماني وترغب فيه الإرادات، وتأوي إليها الرغبات. وهذا دليل على أن الجنة في أعلى الأماكن، وفوق السماوات السبع.
وقد قال -تعالى-: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 19).
- وقوله (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى): أي: يغشاها من أمر الله -تعالى- شيء عظيم لا يعلم وصفه من الملائكة والنور والألوان. روى مسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود موقوفًا: "لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط منها فيقبض فيها (إِذْ يُغْشِى السِّدْرَةَ مَا يُغْشِى)، قال: فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمته المقحمات -أي: الكبائر-".
ومع بلوغ سدرة المنتهى أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- مهيأً لتلقي كلام الرب -عز وجل- مباشرة.
- وقوله (مَا زَاغَ الْبَصَرُ): قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما ذهب يمينًا ولا شمالًا". (وَمَا طَغَى) أي: ما تجاوز البصر ما أمر به. وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة. "وهذا من كمال الأدب منه -صلوات الله وسلامه عليه- أن أقام مقامًا أقامه الله فيه، ولم يقصر عنه ولا تجاوزه ولا حاد عنه. "وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم الذي فاق فيه الأولين والآخرين؛ فإن الإخلال بأن يكون أحد هذه الأمور: إما أن لا يقوم العبد بما أمر به، أو يقوم به على وجه التفريط، أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يمينًا وشمالًا، وهذه الأمور كلها منتفية عنه" (تفسير السعدي).
وفي ذلك قال الشاعر:
رأَى جَنَّةَ المَأوَى وَمَا فَوْقَها وَلَو رَأى غــَـيـرُهُ مـا قَـد رَآه لـتَـاهَـا
- وقوله -تعالى-: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى): من الأمور التي رآها في ليلة الإسراء والمعراج على الأرض وفي السماوات، وهذا كقوله -تعالى-: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) أي: الدالة على قدرتنا وعظمتنا. قال ابن كثير: "وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع -يعني رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ببصره-؛ لأنه قال: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)، ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس".
وقد أوردت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما بعض تفاصيل ما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في السماوات وما فوقها في تلك الليلة.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "أُسْرِيَ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البراق صحبة جبريل -عليهما الصلاة والسلام-، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البراق بحلقة باب المسجد. ثم عُرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هنالك آدم أبا البشر، فسلم عليه فرحب به، ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره. ثم عُرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه ورحبا به، وأقرا بنبوته. ثم عُرج به على السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، ورحب به وأقر بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء السادسة، فلقى فيها موسى بن عمران، فسلم عليه ورحب وأقر بنبوته. فلما جاوز بكى موسى، فقيل له ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلامًا بُعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. ثم عُرج به إلى السماء السابعة، فلقى فيها إبراهيم عليه السلام، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته. ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع إليه البيت المعمور. ثم عُرج به إلى الجبار جل جلاله فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى، فقال له: بم أمرك؟ قال: بخمسين صلاة. قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار -تبارك وتعالى-، فوضع عنه عشرا، ثم أنزل حتى مر بموسى فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله -عز وجل-، حتى جعلها خمسًا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم، فلما بعد نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" (زاد المعاد).
ويدل ذلك على منزلة الصلاة؛ إذ هي العبادة الوحيدة التي تم التكليف بها من الله -تعالى- مباشرة بلا واسطة. وكذلك الدلالة على جواز نسخ الحكم الشرعي قبل التمكن من الفعل، إذ نسخ الفرض من خمسين صلاة إلى خمس صلوات قبل فعل الخمسين صلاة.
وفي مراجعة موسى عليه السلام للنبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن الخمسين صلاة دلالة على أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب؛ إذ استفاد موسى -عليه السلام- من تجربته مع قومه في التعرف على أحوال الناس وأنهم لن يتحملوا إلا ما هو أقل من ذلك بكثير. وفيه التنبيه بالأعلى على الأدنى. والله أعلم.
ومن الفوائد أيضًا:
- فضل السفر ليلًا.
- إن للسماوات أبوابًا حقيقية، عليها حفظة موكلين بها.
- بيان آداب الاستئذان عند القدوم وقبل الدخول.
- استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحاب والثناء والدعاء.
- جواز المدح للشخص عند أمن الافتتان.
- جواز النصح وإن لم يستشر الناصح.
قال صفي المباركفوري في "الرحيق المختوم": "وقد وقع شق صدره -صلى الله عليه وسلم- هذه المرة أيضًا. وقد رأى ضمن هذه الرحلة أمورًا عديدة: عرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن، فقيل: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة. ورأى أربعة أنهار في الجنة نهران ظاهران ونهران باطنان. أما الباطنان فنهران في الجنة، والظاهران هما النيل والفرات".
قال المحدث الأستاذ محمد شاكر (نقلًا من "الإسراء والمعراج" للشعراوي - ط. دار الشروق، هامش 19): "مما لا يرتاب فيه عاقل أن هذا مجاز يراد به ما في هذين النهرين من العذوبة والحسن والبركة. وقرينة المجاز هنا قرينة عقلية بديهية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم بالمشاهدة علم اليقين، ويعلم سامعوه ذلك، أن الفرات في الجهة الشرقية من الحجاز وأن النيل في الجهة الغربية منه، وبينه وبينهما مفاوز شاسعة، فلا يمكن أن يراد جمع أصليهما من مكان واحد في الأرض، أما في السماء مما وراء المادة فذلك غيب نؤمن به، ولا نتأول ولا ننكر، هذا شيء بديهي. فدع عنك تكذيب المكذبين واعتراض المعترضين من أهل هذا العصر، الذين رباهم أستاذوهم من الإفرنج المبشرين وغيرهم من الملحدين المنكرين على الجرأة على السنة النبوية، بل على أصل الدين" (راجع صحيح ابن حبان بتحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر، ص 196).
ورأى مالك خازن النار، وهو لا يضحك وليس على وجهه بشر ولا بشاشة، وكذلك رأى الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لهم مشافر كمشافر الإبل يقذفون في أفواههم قطعًا من نار كالأفهار -الفهر: حجر ناعم صلب-، فتخرج من أدبارهم. ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطؤونهم. ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهن رآهن معلقات بثديهن" (راجع في ذلك الرحيق المختوم). ورأى قومًا لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم، وهم الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.
ورؤية أصحاب هذه الكبائر وجزاؤهم الأخروي عليها كان كما هو معلوم قبل نزول تحريم هذه الكبائر، الذي تم بعد ذلك في المدينة، وهذا من باب التنفير منها ببيان جزائها الأخروي قبل نزول أحكامها التكليفية بالتحريم. والله -تعالى- أعلم.