كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد اختلف العلماء حول تعيين السَّنة التي وقعت فيها رحلة الإسراء والمعراج على أقوال عديدة، والأقرب أنها وقعت بين السنة العاشرة من البعثة وبين بيعة العقبة الأولى، والتي كانت في موسم الحج في السنة الثانية عشرة من البعثة، أو أنها وقعت بين البيعتين الأولى والثانية، والتي كانت في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة. والله أعلم. (راجع في ذلك: "الرحيق المختوم" لصفي الرحمن المباركفوري - ط. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، ص 138).
قال حافظ بن أحمد حكمي في (معارج القبول): "والإسراء والمعراج ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا تأثير لاختلاف أهل السير في تاريخه وتعيين سنته ووقته؛ غير أن الراجح فيه كونه بين عاشر البعثة وبين هجرته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وعلى قول من يقول: إن خديجة -رضي الله عنه-ا أدركت فريضة الصلوات، فالمعراج في سنة عشر أو قبلها، والله أعلم؛ لأنها توفيت هي وأبو طالب في ذلك العام" (راجع: "معارج القبول" للشيخ حافظ بن أحمد حكمي - مركز الهدى للدراسات - ط. أولى، 1418 هجريًا - 1997م، 4/ 177).
وعن الزهري -رحمه الله- قال: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، وكذا قال عروة. وقال السدي: بستة عشر شهرًا. (راجع تفسير ابن كثير لسورة الإسراء). وقال ابن عبد البر وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران. (راجع: "زاد المعاد" لابن القيم).
ولعل أنسب ما قيل في تعليل هذه الرحلة العجيبة هو ما جاء في قوله -تعالى-: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) (الإسراء:?). وهذه من سنن الله -تعالى- مع رسله، قال الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:??)، فالمقصود: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فبعد رؤية الآيات يحصل للأنبياء عين اليقين، فيتحملون في سبيل الله -تعالى- ما لا يتحمله غيرهم. وقال الله -تعالى- في حق موسى -عليه السلام-: (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى) (طه:??).
ويقوي هذا التعليل: أن تلك المعجزة وقعت بعد وفاة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، وكانت خير عون للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعد وفاة عمه أبي طالب، وكان يحمي النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذى قريش، وكلاهما قد توفي في السنة العاشرة من البعثة، والذي أُطلِق عليه (عام الحزن)؛ لشدة أثره على نفسية النبي -صلى الله عليه وسلم-.
رحلة الإسراء في القرآن الكريم:
ورد الحديث عن رحلة الإسراء في القرآن الكريم بالنص عليها أول سورة الإسراء، في قوله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:?).
قوله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا):
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "يمجِّد -تعالى- نفسه ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه؛ فلا إله غيره ولا رب سواه" (تفسير ابن كثير).
وقوله -تعالى-: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا): المراد بعبده النبي -صلى الله عليه وسلم-، و(لَيْلًا): أي في جنح الظلام. وكان الإسراء بروحه وجسده معًا، وإلا لم يكن في ذلك آية كبرى ومنقبة عظيمة.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "والحق أنه أسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس راكبًا البراق". والإسراء في اللغة من السُّرى، وهو السير ليلًا، يقال: سرى وأسرى، وقوله: (لَيْلًا) أي: في جزء من الليل، فلم يسر به الليل كله، كما في قوله -تعالى-: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) (هود:??). والله -تعالى- أعلم.
- وأكثر العلماء -وهو الصواب- أنه أسري به -صلى الله عليه وسلم- ببدنه وروحه يقظة لا منامًا، لأمورٍ عديدةٍ؛ منها:
1- بداية الآية -آية سورة الإسراء- بالتسبيح (والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام؛ فلو كان منامًا لم يكن فيه شيء كبير، ولم يكن مستعظمًا، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم) (راجع تفسير ابن كثير).
2- إن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقد قال -تعالى-: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا).
3- إن اعتراض كفار قريش وعدم تصديقهم للإسراء والمعراج دَلَّ على أن الإسراء والمعراج كان كما أخبرهم به النبي -صلى الله عليه وسلم- بالروح والبدن وفي اليقظة، فلو كان في المنام أو بالروح فقط لما كذبوه وأنكروا عليه.
4- وقد قال -تعالى- عن رحلة الإسراء والمعراج في سورة النجم: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (النجم: ??)، والبصر من آلات الذات لا الروح.
5- إنه -صلى الله عليه وسلم- حُمِل على البراق، وهو دابة بيضاء براق لها لمعان، وإنما يكون الحمل للبدن لا للروح؛ لأنها لا تحتاج في حركاتها إلى مركب تركب عليه. والله أعلم. (راجع تفسير ابن كثير).
6- إنه ظاهر القرآن فلا يصرف عنه إلى غيره.
قوله -تعالى-: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ):
بمكة (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)، وهو: بيت المقدس الذي بإيلياء بالشام.
وقوله -تعالى-: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) أي: بكثرة الزروع والثمار والأشجار، والخصب الدائم. ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة، وأنه يشد إليه الرحال للعبادة والصلاة فيه، وأنه -تعالى- اختصه محلًّا لكثيرٍ من أنبيائه وأصفيائه. (لِنُرِيَهُ) أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-. (مِنْ آيَاتِنَا) أي: العظام.
وقوله -تعالى-: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم (الْبَصِيرُ) بهم، فيعطي كلًّا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة.
- قال ابن كثير في تفسيره بعد إيراده الأحاديث النبوية الواردة في الصحيحين وغيرهما الوارد فيها قصة الإسراء والمعراج: "وإذا حصل الوقوف على مجموع الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، فحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه؛ زاد بعضهم فيه أو نقص منه".
- وأضاف أيضًا: "قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه: (التنوير في مولد السراج المنير)، وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد، ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشداد بن أوس، وأُبَي بن كعب، وعبد الرحمن بن قرط، وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمرو، وجابر وحذيفة وبريدة، وأبي أيوب وأبي أمامة، وسمرة بن جندب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر -رضي الله عنهم أجمعين-؛ منهم مَن ساقه بطوله ومنهم من اختصره، على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة؛ فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف: 8)" (تفسير ابن كثير - ط مكتبة الصفا المحققة - 1425 هجريًّا - 2004 م، 5/ 29).
- ولا غرابة مطلقًا في قدرة الله -تعالى- على الإسراء بنبيه من مكة إلى إيلياء، والعروج به من هناك إلى السماء، ثم العودة بعد ذلك إلى مكة في نفس الليلة -بل في جزء منها-؛ فهذا في قدرة الله -عز وجل- يسير جدًّا، يتم في زمن يسير للغاية، والله -عز وجل- لا يعجزه شيء، وهو على كل شيء قدير. وإنما كان أكثر زمن الرحلة فيما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- خلالها من أحداث كالتقائه بالرسل والأنبياء والصلاة بهم، وكلامه مع بعض منهم خلال مروره في السماوات، ورؤية الجنة والنار، وتلقي فرض الصلوات الخمس من الله -تعالى- مباشرة، وغير ذلك.
- والشواهد النقلية والعقلية على صحة ذلك كثيرة؛ منها:
- إن الله -تعالى- هو الذي أخبر أنه أسرى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أسرى بنفسه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا في قدرة الله -تعالى- أمر هين ليس بالأمر الصعب، ولكنه في قدرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبإمكانيات عصره هو أمر صعب عليه للغاية، وشتان بين الأمرين.
- ما ذكره أبو بكر الصديق لما أخبره المشركون بقصة إسراء النبي ومعراجه؛ فذكر أنه يصدقه فيما هو أكبر من ذلك من تلقي الوحي من ربه عن طريق جبريل -عليه السلام-، فنزول جبريل لمخاطبة النبي لمرات كثيرة تردد فيها بين الله -عز وجل- وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتلو عليه آيات القرآن الكريم الذي نزل عليه منجمًا، وكذلك نزول جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بحسب الأحداث والنوازل، كلها دالة على قدرة الله -تعالى- على الإسراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والعروج به متى شاء، فإن الله -تعالى- لا يعجزه شيء.
- ما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه وصف بيت المقدس لكفار قريش، مما أراه الله -تعالى- له ليكون دليلًا دامغًا على صدقه فيما أخبر به، بل أخبرهم -صلى الله عليه وسلم- بأمور رآها في طريقه وتأكدوا منها؛ ففي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ -أي: حجر إسماعيل -عليه السلام- فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ) (متفق عليه). وعند مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: (لقد رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكَرَبْتُ كُرْبَةً مَا كَرَبْتُ مِثْلَهَا قَطُّ) قال: (فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ) (رواه مسلم).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قومه أخبرهم بما أراه الله -عز جل- من آياته الكبرى؛ فاشتد تكذيبهم له، وآذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبى الظالمون إلا كفورًا" (زاد المعاد).
- ما ورد في القرآن الكريم عن قدرة الجن على نقل الأشياء لمسافات كبيرة في زمن قصير للغاية، كما في قصة سليمان -عليه السلام-؛ قال -تعالى- عن سليمان: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: 28-40)، فإذا كانت تلك قدرة عفاريت الجن؛ فكيف بقدرة الخالق لها -عز وجل-؟!
- ما وصلت إليه قدرة البشر حاليًا من الانتقال جوًّا بالطائرات المحملة بالبشر والبضائع الثقيلة لآلاف الكيلومترات في ساعات قليلة تعد على الأصابع بسرعات فائقة، وعلى ارتفاعات شاهقة، فلم تعد رحلة جوية من مكة إلى القدس من الأمور التي تحتاج إلى أوقات طويلة، بل يمكن الذهاب من مكة إلى القدس والعودة لمكة بالطائرة خلال جزء من ليلة، فإذا كانت تلك قدرة البشر؛ فكيف بقدرة الله -تعالى-؟!
- وقد ذكر ابن كثير في تفسيره لسورة الإسراء تحت عنوان: (فائدة حسنة جليلة)، ما رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة بسنده عن قصة لقاء هرقل عظيم الروم وأبي سفيان المشهور بالشام لسؤاله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو سفيان في سياق الحديث: "والله ما منعني أن أقول عليه قولًا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شيء. قال: حتى ذكرت قوله: ليلة أسري به، قال: قلتُ: أيها الملك ألا أخبرك خبرًا تعرف أنه قد كذب؟ قال: وما هو؟ قال: قلت: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلي إلينا تلك الليلة قبل الصباح! قال: وبطريق إيلياء عند رأس قيصر فقال بطريق إيلياء: قد علمت تلك الليلة. قال: فنظر إليه قيصر، وقال: ما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته فغلبنا فلم نستطع أن نحركه، كأنما نزاول به جبلًا فدعوت، إليه النجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان، ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتي، قال فرجعت وتركت البابين مفتوحين، فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب وإذا فيه أثر مربط لدابة، قال: فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب إلا عن نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا..." وذكر تمام الحديث. (راجع: تفسير ابن كثير).
- قال صفي الدين المباركفوري: "يرى القارئ في سورة الإسراء: أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإن الله -تعالى- يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبقَ معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلًا إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم" (الرحيق المختوم).
- في قوله -تعالى-: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (الإسراء: 60)، ذهب البعض إلى أن المراد بالرؤيا في الآية الرؤية المنامية، فكلمة الرؤيا لا تأتي مصدرًا إلا لرأى الحلمية، رأي المنام، لأن البصرية يقال فيها: رأيت رؤية، والمنامية يقال فيها: رأيت رؤيا، ونص القرآن: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أي: أنها منامية، أي: أن الإسراء والمعراج كان منامًا لا يقظة. والأصح -كما ذكرنا-: أن الإسراء والمعراج كانا يقظة لا منامًا.
ويمكن أن يُجاب عما قالوه بما يلي:
- بأنه إن كانت رؤيا منامية؛ فكيف تكون فتنة للناس؟! ومعنى فتنة الناس أن بعضهم يصدق وبعضهم يكذب، ولو كانت رؤيا منامية فلا يناقشها أحدٌ؛ لا تصديقًا ولا تكذيبًا، وإلا فهل اختلف الناس مع واحد من الناس رأى رؤيا؟! وبأي شكل رآها؟! وبأي سرعة؟! وأي منظر؟! وما دامت الرؤيا جعلت فتنة؛ فهذا دليل على أنها لم تكن رؤيا منامية.
- بأن الرؤيا وردت في اللغة أيضًا للرؤية البصرية للأشياء، لكن في الأشياء الغريبة العجيبة التي مما لا يُدرك إلا فيما يشبه الأحلام، فكأنها منام لا يقظة.
ومن ذلك قول الشاعر:
فـكـبر للرؤيا وهـشَّ فـؤاده وبشـَّر نفسًا كان قبل يلومها
ومن ذلك قول المتنبي -وإن كان ممن لا يُستشهد بشعره إلا أنه يُستأنس به-: "ورؤياك في العينين أحلى من الغمض" (راجع في ذلك: "الإسراء والمعراج" للشيخ محمد متولي الشعراوي، ط. دار الشروق ط. أولى 1974، تقديم أحمد فراج، ص 44- 46).
- قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير الآية المذكورة: "هي رؤيا عين أُريها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أُسري به" (راجع تفسير ابن كثير).
- إن الفعل جعل إذا جاء متعديًا لمفعول به واحد، كان بمعنى خلق من عدم، كما في قوله -تعالى-: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء: 1)، أما إذا جاء متعديًا لمفعولين، فيكون بمعنى حوّل شيئًا موجودًا إلى آخر، مثل جعلت الخشب مكتبًا، فيكون: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً) أي: فجعل الرؤيا (مفعول به أول)، فتنة (مفعول به ثاني)، وكيف تصير الرؤيا حقيقة؟ لا مانع أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد رأى الإسراء رؤيا منامية ثم رآه يقظة، كما جاء في قوله -تعالى-: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) (الفتح: 27)؛ إذ رأى الأمر في الرؤيا المنامية ورؤيا الأنبياء حق، ثم صارت حقيقة وواقعًا، فما الذي يمنع أن يكون رسول الله آنس الله روحه فرأى منامًا هذه المشاهد، وبعد ذلك رآها حقيقة، كما رأى أنه دخل المسجد الحرام رؤية وأصحابه محلقين ومقصرين، وبعد ذلك رآها حقيقة، وتكون (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتَهَا أَنْتَ فِي الْمَنَامِ إِلَّا فِتْنَةً) أي: واقعًا يفتن فيه الناس، بعد أن كانت كذا صارت كذا، إذا فلا مانع أن يكون الرسول تعرض لحدث الإسراء منامًا، تعرض له روحًا وتعرض له يقظة، والسيدة عائشة أخبرت أنه ما رأى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، فإذا كان قد رأى رؤيا فهي إذًا حقيقة. (راجع في ذلك: "الإسراء والمعراج" للشعراوي، ص 46 - 48).
- أما قوله -تعالى-: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا . وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا) (الإسراء: 90-94)؛ فهذا كله إخبار عن تعنت الكفار لا الطلب الصادق للآيات البينات وإلا فقد جاءهم منها ما يكفي وزيادة. ولا تنافي هذه الآيات النص في القرآن والسنة الصحيحة على وقوع معجزة الإسراء والمعراج، لكنها جاءت كما أراد الله -تعالى- مخالفة لأهوائهم وتعنتهم.
قال ابن كثير في تفسيره: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ) أن تصعد في سلم ونحن ننظر إليك، (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ)، قال مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة: هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان تصبح موضوعة عند رأسه. وقوله -تعالى-: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) أي: سبحانه و-تعالى- وتقدَّس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلى رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله -عز وجل-" (تفسير ابن كثير).
وقال السعدي -رحمه الله- في تفسيره عن حال هؤلاء الكفار: "وجعلوا يتعنتون عليه باقتراح آيات غير آياته يخترعونها من تلقاء أنفسهم الظالمة الجاهلة".
وأضاف أيضًا: "ولما كانت هذه تعنتات وتعجيزات، وكلام أسفه الناس وأظلمهم، المتضمنة لرد الحق وسوء الأدب مع الله، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يأتي بالآيات، أمره الله أن ينزهه، فقال: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي) عما تقولون علوًّا كبيرًا، وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لأهوائهم الفاسدة وآرائهم الضالة (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) ليس بيده شيء من الأمر" (تفسير السعدي).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.