كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
الإسلام يحث على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني).
من مكارم الأخلاق المنشودة "الشهامة": عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
تعريف الشهامة: قيل هي: "الحرص على الأمور العظام؛ توقعًا للذكر الجميل عند الحق والخلق" (التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي). وقيل: الشهم معناه في كلام العرب: الحمول، الجيد القيام بما يحمل، الذي لا تلقاه إلا حمولًا، طيب النفس بما حمل" (الزاهر في معاني كلمات الناس لأبي بكر الأنباري).
(1) شواهد "الشهامة" من القرآن والسنة:
أولًا: شواهد القرآن:
مشهد تقوية قلوب المؤمنين وتحريضهم على مواجهة الكافرين: قال -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 104).
قال السعدي -رحمه الله-: "ذكر سبحانه ما يقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين؛ الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك؛ لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام، وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى" (تيسير الكريم الرحمن للسعدي).
مشهد شهامة نبي الله موسى -عليه السلام- في سقي غنم الجاريتين في مدين: قال -تعالى-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ . فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: 23، 24).
قال الحجازي -رحمه الله-: "فثار موسى، وتحركت فيه عوامل الشهامة والرجولة، وسقى لهما، وأدلى بدلوه بين دلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما" (التفسير الواضح للحجازي).
ثانيًا: شواهد السنة:
الشهامة وقضاء حوائج المسلمين سبب في تقييد النعم عند العبد: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ للهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُمْ -يَعْنِي: جَعَلَهَا ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ-؛ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: "حسن لغيره").
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ للهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ) (رواه ابن أبي الدنيا والطبراني، وقال الألباني: "حسن لغيره").
وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: "صحيح لغيره").
نماذج في الشهامة:
شهامة النبي -صلى الله عليه وسلم- في سبق الناس إلى مكان الخطر؛ وقاية لهم وذودًا عن حياضهم: عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتًا، فتلقاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على فرس لأبي طلحة عري، وهو متقلد سيفه، فقال: (لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا)، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَجَدْتُهُ بَحْرًا)، يعني الفرس. (متفق عليه)(1).
قال القرطبي -رحمه الله-: "في هذا الحديث ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد جُمِع له من جودة ركوب الخيل، والشجاعة، والشهامة، والانتهاض الغائي في الحروب، والفروسية وأهوالها، ما لم يكن عند أحد من الناس" (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم).
شهامة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه لقريش بزوال البلاء عنهم لما سألوه ذلك، على الرغم من العداوة الشديدة منهم، وحربهم للمسلمين: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى من الناس إدبارا، قال: (اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ)، فأخذتهم سنة حصت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، وكان أحدهم ينظر إلى السماء، فيرى الدخان من الجوع، فأتاه أبو سفيان، فقال: يا محمد، إنك تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم) (ينظر: فتح الباري).
قال العلماء: "فالنبي -صلى الله عليه وسلم- رغم عداوة قريش وإيذائها للمؤمنين، لما جاءه أبو سفيان يطلب منه الاستسقاء لم يرفض؛ لحسن خلقه، وشهامته، ورغبته في هدايتهم، فإن الشهامة ومكارم الأخلاق مع الأعداء، لها أثر كبير في ذهاب العداوة، أو تخفيفها".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فأين هؤلاء الذين يتغافلون عن استغاثات الجيران، والمرضى والضعفاء من حولهم، من شهامة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!