الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 11 فبراير 2025 - 12 شعبان 1446هـ

أسباب النبوغ العلمي في كيان الدعوة السلفية (3)

كتبه/ عبد الرحمن راضي العماري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

نستكمل كلامنا في هذا المقال عن أسباب النبوغ العلمي في كيان الدعوة السلفية؛ فمن ذلك:

17- المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة: كوادر الدعوة السلفية يُدركون أهمية الجمع بين التراث العلمي السلفي ومتطلبات العصر الحديث؛ فهم يدرسون كتب السلف بعمق؛ مثل: مؤلفات ابن تيمية، وابن القيم، والنووي.

وفي الوقت نفسه، يطّلعون على العلوم الشرعية الحديثة؛ مثل: الدراسات المقاصدية والاجتهادات المعاصرة، مما يُنتج علماء متوازنين قادرين على معالجة قضايا العصر بمنهجية سلفية أصيلة.

18- الحرص على تكوين مؤسسات علمية بحثية: فوجود مؤسسات ومراكز علمية متخصصة في التعليم والتأليف يُوفر لهم بيئة علمية محفزة، وهذه المؤسسات تسهم في تنظيم عملية طلب العلم، وإصدار المؤلفات وترتيب الدورات العلمية.

19- الانضباط الفكري وضبط منهج السلف في قضايا الفرقان: من أبرز عوامل تفوق كوادر الدعوة السلفية انضباطهم الفكري المستمد من منهج السلف الصالح، وهذا قد نتج عن تحقيق ودراسة منهج السلف في قضايا الفرقان، ووضوح القواعد الشرعية والأصول العلمية في تلك القضايا التي حصل فيها التباس في عصرنا وفتن، وانحرافات؛ كقضايا الإيمان والكفر، وفقه الخلاف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء، والحاكمية، والعمل الجماعي، ومصادر الاستدلال؛ فحققوا قدرًا كبيرًا من البصيرة في قضايا كبيرة، ونجوا من الانزلاق في مزالق الفرق والطوائف التي تتبع الأهواء أو تأخذ من الدين ما يوافق هواها.

والتزامهم بالمنهج السلفي يجعلهم قادرين على التمييز بين الحق والباطل في مسائل العقيدة والمنهج والفكر والسياسة، بعيدًا عن الغلو أو التفريط.

هذا الانضباط يعكس قوة منهجهم في قضايا كبرى بالتوازي مع طلب العلم المستمر حيث يلتزمون بفهم السلف، وتلقي العلوم دون التأثر بالمناهج المنحرفة.

20- تكوين المؤسسات التعليمية النظامية: لم يكتف كوادر الدعوة السلفية بالتعليم التقليدي، بل حرصوا على إنشاء مؤسسات تعليمية منظمة؛ مثل: 

- المعاهد الشرعية: التي تعنى بتدريس العلوم الشرعية وفق منهج السلف.

- الأكاديميات العلمية: التي تجمع بين التعليم الشرعي والمهارات الدعوية والتربوية.

هذه المؤسسات تضمن تخريج جيل من العلماء والدعاة؛ الذين يجمعون بين التخصص الشرعي والكفاءة العلمية.

21- الحرص على نشر سير وتراجم العلماء: كوادر الدعوة السلفية يولون عناية خاصة بـنشر سير وتراجم العلماء عبر: قراءة كتب الطبقات والتراجم؛ مثل: (سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي- حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني - البداية والنهاية لابن كثير).

إضافة إلى إعداد الدروس والمحاضرات التي تستعرض حياة العلماء ومواقفهم البارزة في نصرة الدين، ومن أوائل ما صنفه مشايخ التيار السلفي: الكتب التي تتعلق بعلو الهمة، وحرمة أهل العلم، وأعلام السلف، وبيان المنهج الصحيح في طلب العلم، وتدرس حلية طالب العلم، وغيره؛ هذا الحرص يربط الطلاب بـالقدوة العملية من السلف الصالح وعلماء الأمة، مما يقوي دوافع طلب العلم.

22- الاستقرار المؤسسي ووحدة الفكر: تميزت الدعوة السلفية -بفضل الله أولًا، ثم بوضع أسس تنظيمية؛ إعمالًا لنصوص التعاون على البر والتقوى- بالاستقرار المؤسسي؛ مما ضمن استمرارية الدعوة وطلب العلم، وتماسكها بعيدًا عن الاعتماد على الأفراد أو الرموز، فظهرت أجيال متتابعة قادرة على حمل الأمانة عايشت الرموز العلمية واستفادت منها، وأكملت مسيرتها؛ كما أن منهجهم في تقديم المصلحة العامة، والارتباط بالمنهج لا بالأشخاص، جنَّبهم التأثر بموت القادة أو خروج بعض الرموز عن الكيان، مع الحفاظ على المرونة في مواجهة التحديات، مما عزز ثبات الدعوة وانتشارها عبر الزمن.

23- التكامل العلمي وعدم الاقتصار على علم واحد من علوم الشريعة أو شيخ واحد: تميز أبناء الدعوة السلفية بمنهجية التكامل العلمي، حيث لا يقتصر طلبهم على علم واحد من علوم الشريعة، بل يجمعون بين مختلف الفنون الشرعية: كالفقه، والعقيدة، والتفسير، والحديث، وأصول الفقه، مع العناية بعلوم الآلة كاللغة والمصطلح وأصول الفقه، وغيرها. هذا التنوع والموسوعية لدى كثير منهم أو في مجموعهم، وعدم اقتصارهم على شيخ واحد؛ يثري فهمهم ويؤهلهم لفهم النصوص الشرعية بصورة متكاملة، ويجنبهم القصور في تصور المسائل أو الاقتصار على جانب دون آخر. 

كما أن التكامل العلمي يعزز القدرة على الجمع بين التأصيل الشرعي والعمل الدعوي؛ مما يجعلهم أكثر نبوغًا وتأثيرًا في ميادين التعليم والإصلاح، مع الحفاظ على الاتزان العلمي والعملي.

24- التأني في طلب العلم.. طريق النبوغ وحفظ مكانة الدعوة: عدم التعجل في طلب العلم والتصدر للفتوى يُرسِّخ النضج العلمي، ويجنب الوقوع في الأخطاء، فرغم توافر الآلاف من طلاب العلم في الدعوة السلفية، ونبوغ كثير منهم؛ إلا أنه لا يتصدر في كيان الدعوة للإفتاء خاصة في قضايا النوازل والشأن العام والدماء والأعراض والأموال، إلا قلة قليلة.

فالنبوغ الحقيقي والتأهل للإفتاء يتطلب صبرًا وتدرجًا في التعلُّم، وتكامل ملكات فتيربي طالب العلم على التواضع وحسن الأخلاق، والصبر وعدم التعجل، وتوقير العلم، فمَن استعجل التصدر أضر بنفسه وبالكيان الذي ينتسب إليه؛ إذ إن الدعوة قائمة على الدليل الشرعي الموثق بفهم السلف، والتأني يضمن حفظ مكانتها وهيبتها في مقام الفتوى والقرارات المتعلقة بالشأن العام، ولها ارتباط وثيق بالعلم.

وختامًا: فهذا ما يسر الله -عز وجل- بيانه واستحضاره. 

وأسأل الله أن يوفقنا في طلب العلم وتعليمه، والعمل به، وأن يرزقنا البصيرة ويلهمنا السداد. 

والحمد لله رب العالمين.