الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 03 فبراير 2025 - 4 شعبان 1446هـ

الراشي والمرتشي

كتبه/ عبد العزيز خير الدين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد خلق اللهُ الخلقَ، وقدَّر آجالَهم، وقسَّم أرزاقَهم، وجعل للكسبِ الحلالِ الطيِّبِ أسبابًا، وحرَّم عليهم أكلَ الحرامِ مهما تعدَّدتْ صورُه وأشكالُه.

ومن الطرقِ المحرَّمةِ والأساليبِ التي تُساعِدُ على نشرِ الفسادِ في المجتمع، وتُؤدِّي إلى ضياعِ حقوقِ الضعفاءِ والمظلومين وشيوعِ الظلم: "الرشوة"؛ ولخطورتِها: فقد لعن رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- مَن تعامل بها، كما في الحديث عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني).

فكم من دواءٍ فاسدٍ، وغذاءٍ غيرِ صالحٍ، قد تسلَّل إلى المجتمعاتِ بسببِ الرشوة!

وكم من مساكنَ قد بُنِيَتْ وانهارتْ على رؤوسِ ساكنيها بسببِ الرشوة!

وكم من أشخاصٍ قد وُظِّفُوا ووُضِعُوا في غيرِ مواضِعِهم؛ فضُيِّعَتِ الأمانةُ بسببِ الرشوة!

وكم من حقوقٍ أُهدِرَتْ بسببِ الرشوة!

لذلك حرَّم اللهُ -عز وجل- أن يُقدِمَ أحدٌ على إعطاءِ الحاكمِ أو المسؤولِ مبلغًا من أجلِ إبطالِ حقٍّ أو إحقاقِ باطلٍ؛ قال الله -تعالى-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة: 188).

ومهما اختلفتِ الأسماءُ والأوصافُ لتجميلِ هذه الجريمةِ البشعةِ، مثلَ قولِهم: (هدية - إكرامية - هبة - مصلحة - محبة - إلخ)؛ فلا يعني ذلك مشروعيتَها؛ فقد بيَّن النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- أنَّه بريءٌ ممَّن يقومُ بفعلِها، وأنَّه سيسألُ عنها يومَ القيامة؛ كما في حديثِ أبي حميدٍ الساعدي -رضي اللهُ عنه- قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعَى: ابْنَ الْأُتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا)، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ ، إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ)، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ، هَلْ بَلَّغْتُ؟) بَصُرَ عَيْنِي، وَسَمِعَ أُذُنِي. (متفق عليه).

ومن الآثارِ السيئةِ للرشوةِ -والتي تؤثِّر على طائفةٍ كبيرةٍ في المجتمع، ممَّن عُرِفَ عنهم الاستقامةُ، والخوفُ من اللهِ، ومحاربةُ الفسادِ-: أن يُضطَرَّ بعضُهم إذا أراد أن يُمارِسَ حقَّه في أيِّ مجالٍ من مجالاتِ الحياة، وتحت ضغطِ المرتشي، وإلا تتعطل مصالحُه أو يضيعُ حقُّه؛ فيُساهِم في إعطاءِ المرتشي! وإن كان مغلوبًا على أمرِه؛ فإن العقوبةَ تكونُ على المرتشي الخائنِ للأمانة.

فما أجمل أن يكونَ المجتمعُ متعاونًا دون ضغطٍ من أحدٍ على الآخر، لينالَ رضا اللهِ -عز وجل-، ويُطعِمَ أهلَه من حلالٍ؛ بالإضافةِ إلى الأجرِ العظيمِ في المشيِ في قضاءِ حاجةِ أخيه، فمن فرَّج عن أخيه كربةً من كُرَبِ الدنيا، فرَّج اللهُ عنه كربةً من كُرَبِ يومِ القيامة.